هل السلام يُبرر القتل؟

هل السلام يُبرر القتل؟

نظرة على فيلم أوبنهايمر

 




استمر عرض كريستفور نولان لثلاث ساعات لم نشعر بها إلا عندما وقفنا على أقدامنا المُنمّلة. تشعر بالدقائق الأولى بالضياع، وفي الساعة الأولى بالترقب، وفي الساعة الثانية بالخوف، والساعة الثالثة بالحزن، وعندما تخرج من القاعة سيطول النقاش والحوار دون نتيجة واحدة. 

 

اتفقنا جميعًا أن أسلوب سرّد القصة بتداخل الأحداث والأزمنة آسر، والموسيقى التصويرية تقشعر لها الأبدان، والحوارات العميقة تهزّ الكيان، وتجسيد كيليان مورفي مُدهش في الإقناع، واللقطات الإخراجية الفنيّة، خاصّة تلك التي ظهر فيها أوبينهايمر عاريًا وسط التحقيق، في غاية الذكاء. ولكن، يبقى السؤال الأهم هو: هل أوبينهايمر قاتل أم تائب؟ 



طال النقاش واحتّد الآراء، وهذه أبرزها: 

 

-       كان يعرف النتيجة جيدًا، كان يعرف ماذا تقترف يداه المُلطخة بدماء اليابانيين! لِما صنعها في البداية إن كان يريد السلام؟ لو كان يُريد السلام لامتنع عن صنعها كما فعل آينشتاين، لو كان يُريد السلام لاعتذر عن الانضمام لرهان العلم. لا تخطؤوا في فهمي فأنا لا أقول أنه قاتل، لا أوبينهايمر ليس قاتلًا، لو كان قاتلًا لدعم صنع القنبلة الهيدروجين لقتل العالم أجمع، ولو كان قاتلًا لتابع دعمه لصنع القنابل، ولو كان قاتلًا لصنع من نفسه أسطورة قوميّة وليس شهيدًا مسكينًا. فالقاتل لا يشعر بالذنب أبدًا، فالقتلة الذين يحلفون أنهم لم يقتلوا بل الشيطان تلبسهم لثواني فأطلقوا النار أو طعنوا بالسكين أو خنقوا بأياديهم أولئك يدقون عندما قالوا أنهم شعروا بالذنب لأنهم قتلوا تحت تأثير الشيطان. أما الذين يُرتبون للقتل فيقضون لياليهم وأيامهم يجهزون المعدات ويُشذّبون السكاكين ويجمعون الريال فوق الريال لشراء المعدّات هؤلاء لا يشعرون بالذنب لأنهم أنفسهم قتلوا. انتظروا، نعم أنا أقول بكل تأكيد أن أوبينهايمر لم يقتل، فالرئيس صادق، من رمى القنبلة هو من قتل فهو من طار بتلك الطائرة المحاربة لمئات الآلاف من الأميال وهو من ضغط على زرّ الإطلاق فقد خطّط ولم يتلبسه الشيطان في لحظة غضب أو انتقام لذلك فهو قاتل ولم يشعر بالذنب حتى ولو حاول إظهار عكس ذلك. ولكنكم ستقولون أن عالمنا المسكين كان يعرف أنه سيقتل الأبرياء، كان يعرف أنه سيحرق الجلود، وسيقتل المئات، بل مئات الألاف من المدنيين بالإشعاعات! يا له من دجّال! سأقول لكم أن أوبينهايمر كان متلبسًا، نعم فلطوال تلك السنوات كان متلبسًا ليس بالشيطان، بل بشيءٍ أقوى من الشيطان!  فقد تلبّسه الفضول! الفضول هو لعنة البشر، فالفضول هو من أنزل آدم وحواء من نعيم الفردوس لجحيم الأرض، والفضول هو من دفع أوبينهايمر لصنع القنبلة الذرية، الفضول قتلنا!


 

-       يا الله! أتعتقدين أن عالم فيزياء تعلّم الهولندية في ستّة أسابيع دفعه الفضول؟ لا أبدًا، بل كان يُريد السلام. أسمعوني للحظة، ولا تقاطعوني! لماذا صَنَع أوبينهايمر القنبلة الذرية؟ ليوقف العداء الياباني؟ لا أبدًا فاليابانيين كانوا مهزومين ولم يحتاج الأمريكان لقنبلة بهذه الضخامة لإيقافهم، ولكنه صنع القنبلة النووية قبل هتلر الذي كان لن يتردد أبدًا في استعمالها لدحر أعداءه وتوسيع نفوذه! ستقولون هيتلر كان مهزومًا في الأصل! ولكن أوبينهايمر ابتكر هذا الاختراع لا ليوقف اليابانيين ولا هتلر بل ليُنهي الحروب، اسمعوني للحظة! هل نشبت بعد الحرب العالمية الثانية أخرى ثالثة؟ هل عادت الدول لتتقاتل بتلك الشراسة؟ الجواب هو لا، فكل الحروب التي أعقبت الحرب العالمية الثانية كانت مجرد مناوشات ومناورات وحروب باردة. ولمن يعود الفضل؟ لأوبينهايمر، تقولون كيف؟ لأنه ابتكر اختراعًا يمتلكه جميع البشر، فلا تكاد دولة تخلو من قنبلة نوويّة ولأن الجميع يمتلك القنابل الفتّاكة فلا أحد يستطيع أن يستعملها ضد أحد. وقُضي الأمر الذي كنتم فيه تستفتيان، فأوبينهايمر صانع سلام! وقد ضحّى بأرواح مئات الآلاف من اليابانيين بتفجير القنبلة النووية وليست الهيدروجينية ليحفظ الأمن والسلام لمئة عام أخرى للملايين من الناس. وأزيدكم من الشعر بيت؟ أظنه ساهم في تسريب المعلومات للروس، نعم أنا مؤمنة بذلك تمامًا فهو سرّب المعلومات حتى لا يصبح السلاح حصرًا على أمريكا فتسيطر بذلك على العالم! وعلى الرغم من أن الحرب وضعت أوزارها بعد ذلك التفجير، إلا أن أوبنهايمر المسكين لرقّة مشاعره لم يحتمل فكرة أنه ضحى بجزء مقابل سلامة البقيّة. أوبينهايمر هو صانع السلام!


 

-       صانع السلام؟ هُزلت! أين السلام الذي تزعمين أنه أحلّه؟ أولًا، جميع العلماء يعرفون وأوبينهايمر كان يعرف أن الحرب انتهت، كانت الحرب منتهية عندما رموا القنابل! وكانوا يعرفون أنهم متقدمين على الألمان والروس بمراحل، حتى الرئيس نفسه استهزأ من أوبينهايمر عندما عبّر عن خوفه من العلماء الروسيين، فالروس لا يملكون علماء ولا موارد والألمان كبيرهم مجنون وعصبي طرد من بلاده القاصي والداني. أوبينهايمر كان يعرف أنه يصنع القنبلة لتخويف العالم بقتل الأبرياء، لا لإيقاف الحرب التي كانت منتهية، ولا للفوز بالرهان العلمي لأن الكفة كانت تميل بفارق كبير للأمريكان، ولا للانتقام لجنود بيرل هاربر فقد انتقموا لشهدائهم بعد القصف بساعات. وأما القنبلة الهيدروجينية فهم صادقون باتهامهم فقد التهمته نار الغيرة، ولا تفسير آخر لذلك. لما لم يدعم صنعها؟ لأنه خائف من قتل المزيد من الأبرياء؟ وماذا فعلت القنبلة الذرية؟ أعادت أرواح الموتى من السماء للأرض؟ بل شعر بالغيرة وخاف أن يخطف ابتكار زميله الأضواء والمناصب منه فدمّره كما دمّر حياة اليابانيين الأبرياء. يا له من ممثل! يقول ندمت والمرء يستطيع أن يكذب بسهولة، هاه وأنا أيضًا لم استمتع بالفيلم فلم يعجبني البتة، رأيتِ أستطيع أن أكذب! يقول ندمت وأريد إيقاف هذه القنابل، بعد ماذا؟ بعد أن أصبح أشهر عالم آنذاك، بعد أن صفق له مئات الطلّاب، بعد أن أصبح غلافًا لمجلة التايمز، بعد أن قابل رئيس الولايات المتحدة، بعد أن أصبح بطلًا قوميًا، بعد أن حقق كل ذلك قال "ندمت، ويداي ملطخة". نعم هي ملطخة للأبد! وما قاله وذكره كذب! بل شعر أنه قد يُصبح طيّ النسيان فخرج وتكلّم ليُصبح شهيدًا يهوديًا، وقد نجح. نعم كريستفور نولان مجّد قاتلًا! ولم استغرب ذلك من الأمريكان الذين يجيدون تمجيد أشرارهم. عار علينا إن أحببناه، وعار علينا أن نسينا أنه أفنى سنوات عمره لصنع قنبلة تُدمّر البشر، ثم نقول أوه لا لقد ندم على فعلته. انظري لي، تخيلي معي سأخذ سكينًا من المطبخ ليست السكينة الصغيرة التي نقطع بها الفواكه أو نوزّع بها الزبدة على شريحة التوست لا لا، سأختار أكبر سكينة، تلك السكينة التي يُخبأها والدي في أعلى رف ولا نراها إلا في عيد الأضحى لذبح الكبش، سأضع الكرسي وأصعد عليه وأمسك السكين وأنزل من على الكرسي. ثم أخذ السلاح وأحدّه باستعمال آلة الحدادة، وأرفعها عاليًا أمام الضوء فأرى انعكاس وجهي على اللون الفضي، وبعدها سأسير وأذهب لأبني وأوجه له الطعنات... 



-       توقفي! توقفي وصلت فكرتك توقفي أرجوك! يالك من مجرمة! فهمنا، فهمنا واستوعبنا ما تقولينه والعياذ بالله. فهمتُ وجهت نظرك تمامًا بأنه قاتل. واستوعبت ذلك تمامًا، ولكنه لم يملك خيارًا آخر. اسمعيني جيدًا، فهو لم يأخذ السكين بيده، بل والده هو من أعطاه السكين وقال أجعلها حادّة فقط! لم يقل له وجه الطعنات، ولم يطلب منه أن يحلّ السلام فهو مجرد حدّادٍ ماهر يُجيد حدّ السكاكين، وهذه السكين قد تذبحين بها خروفًا يُطعم المساكين من الجوع، أو يقتل به الأبرياء في الشارع. هل يتحمّل الحدّاد النتيجة؟ هل الحدّاد هو من قتل؟ لا بل يده كما قال الرئيس نظيفة تمامًا، فهو لم يقتل. تخيلي معي لو رفض أوبينهايمر إدارة المشروع، أتظنين أنهم سيتركونه حيًا وقد أطلعوه على أكبر أسرار الدولة؟ مستحيل! فعندما أُبيح السرّ له كان أمامه خياران إمّا المشاركة أو الموت. وعندما شارك فهو شارك لأجل بلاده، لأجل أن تصنع الولايات المتحدة أول قنبلة ذرية في التاريخ، وليس لقتل الأبرياء. كان العالم أجمع يُراهن على العلم وقد ساعد بلاده بالفوز بالرهان العلمي. فهو كان يعرف أن الحرب العالمية الثانية انتهت والفوز من نصيب حلف الناتو وأمريكا، ولكنه لم يصنع القنبلة لإنهاء تلك الحرب، بل صنعها للفوز بالرهان العلمي، فهو لم يُفجّر القنبلة ليقتل اليابانيين وينتقم لشهداء بيرل هاربر، بل فجّرها لينتصر على بقية العلماء. فهو كان يقود علماء لوس ألاموس على العلماء الروس والألمان، وفريقه انتصر. وماذا بعد الانتصار؟ تحوّلت تلك الأرقام والمعادلات والنظريات لمآسي حقيقية، فبعد أن انفجرت القنبلة استوعب أن السباق لم يكن سباق علم. في الواقع، لقد استوعب الحقيقة في اللحظة التي تدخّل فيها الجيش وسحب الموارد والمعادلات منهم وطلبوا منه الانتظار فقط، في تلك اللحظة تحديدًا عرف أنه دخل حربًا ليست علمية، بل سياسية. مشكلة أوبينهايمر ليست الفضول أو إحلال السلام أو الانتقام من اليهود، بل هي دخول عالمٍ بسيط لوكر السياسيين. باختصار استغل السياسيين علمه وفضوله وانتقامه وتنافسيته لتحقيق مكاسبهم وبثّ الرعب في نفوس العالم، هو كان الدمية الشهيدة. فبعد أن حقق مرادهم وابتكر السلاح المُدمّر تخلّوا عنه هو وأصدقاءه العلماء، هو مجرد آلة حدّت لهم السكين. 

 

 

تعليقات

ما أحبه القرّاء