الخروف المُبجّل

  

الخروف المُبجّل

أكثر لوحة مسروقة في العالم

 





يجرّ قدماه على الطريق المرصوفة، بين أبنية عتيقة لم يستيقظ سكانها بعد، فحتى الشمس نفسها كانت لتوها تمدّ أشعتها في السماء التي اصطبغت بلون بنفسجي ساحر. لولا أنه كان يقطع طريق الكنيسة نفسها لسنوات، لربما لم يستطع معرفة الاتجاه، فهو لم يكن يسير، ولكن قوّة ما كانت تُحرّك قدماه نحو وجهته.

 

وقف أمام باب الكنيسة، ودفع المفتاح في المزلاج، ودخل المبنى. سار بين الكراسي الخشبية والأثاث المعتاد بالملل نفسه الذي يشعر به كل يوم، وعندما وصل للمذبح توقف. فتلك القوّة التي كانت تأخذه يمينًا وشمالًا لا تعمل إلا في وقت الاعتياد، أما عند المفاجآت فتتوقف. لاحظ شيئًا غريبًا، ولكن النوم أثقل جفناه وأعمى بصيرته فلم يعرف ماذا تغيّر بالضبط، وعندما أمعن البصر صرخ "أين اللوحتين!".

 

 

 

تعود القصّة لعام 1428 وتحديدًا في مدينة غانت الواقعة ببلجيكا، حيث طالب التاجر جودوكوس فيدج وزوجته إليزابيث من الرسّام الفذّ هوبرت فان أيك أن يرسم لوحة ساحرة تُزيّن مذبح كنيسة سانت جون التي سيفتتحانها قريبًا. فعكف الفنان على التخطيط للوحة لم يسبق لها مثيل، وقرّر ألا يرسم لوحة؛ بل قطعة فنية مكوّنة من عشرين رسمة. هذه القطعة الفنية عبارة عن نافذة إن فُتحت ستروي لك قصّة حمل السيّدة مريم بعيسى عليه السلام، وإن أُغلقت ستحكي حكاية الرب وتضحية عيسى بروحه لإنقاذ البشر. ولكن ما إن بدأ هوبرت بتمرير الفرشة على القماش حتى حاصره المرض فلازم الفراش لأيام ثم توفى. 

 

كان مصير تلك التحفة الفنية هي الفناء، ولكن أخ هوبرت الأصغر جان، وهو رسّام لا يقلّ موهبة عن أخيه، سعى ألا يكون هذا المشروع مرمى النسيان. فشمّر عن أكمامه، وجهز فرش الرسم، واستعان بالألوان الزيتية كأولى المحاولات لاستعمالها في عالم الفن، وأنهى العشرين لوحة بتفاصيل مقاربة جدًا للواقع بدءً من ثنايا الثياب وواقعية الملامح البشرية وتفاصيل حياة المدينة، وانتهاءً بتصوير أكثر من 75 نبتة وشجرة. فأصبح جان فان أيك أوّل رسّام يُعرّف العالم على المدرسة الواقعية ويُظهر قدرة الألوان الزيتية. ومن اللحظة الأولى في عام 1432 التي كُشفت عنها عن لوحة "الخروف المُبجّل" ذُهل الحضور وعرفوا أنها جوهرة فنيّة يجب حمايتها.

 

 

 

 

نجت هذه التُحفة الحابسة للأنفاس من مصائب عدّة، فمرّة نجت بأعجوبة من حريق ضخم، واضطرت الكنسية في إحدى السنوات لبيع جزء من اللوحة لرجل إنجليزي يعيش في فرنسا، كما أنها تأثرت من هذه الشدائد فبدأت بعض الألوان بالاختفاء ليتدخل بعض الفنانين في منتصف القرن الماضي لإصلاح ما أفسده الزمن فـ٧٠٪ من اللوحة تمّ إعادة رسمها. وعلى الرغم من نجاتها من كل هذه الأهوال إلا أنها لم تنج مما حدث لها في عام 1932. 

 

A person standing in front of a painting

Description automatically generated

 

لنعود لقصّة موظف الكنيسة المسكين، الذي كان أول شخص يعرف بالمصيبة التي حلّت بمدينة غرانت البلجيكية. أبلغ الموظف مسؤولو الكنيسة والشرطة التي هرعت للتقصي والتحقيق في ملابسات سرقة لوحتين من العشرين لوحة. إلا أن السارق لم يطلّ صمته طويلًا، فقد أرسل للشرطة مطالبات بدفع مبلغ قدرة مليون فرناك بلجيكي لتسليم اللوحتين. وفي لفتة لإظهار النوايا الحسنة، وضع السارق إحدى اللوحتين التي يظهر فيها رسم لمنحوتة القديس في محطة القطار. ثم أرسل للشرطة أننا ها نحن تعاونا فأرسلوا المليون فرانك لنعطيكم اللوحة الأخرى. ويا للأسف، فالشرطة لم تكن مستعدة للمقامرة بذلك المبلغ، فلم تدفعه لهم، واختفت اللوحة. إلا أنه بعد مرور سنة على السرقة، مرّر تاجر عقار في غان رسالة وهو على فراش الموت مفادها "تقبع اللوحة في مكان لا أنا أو أنت نستطيع إخراجها دون لفت انتباه المارّة".

 

لم تستطع تُحفة جان فان أيك من أن تلتقط أنفاسها، حتى تندلع الحرب العالمية الثانية والتي أعلن هتلر فيها عن نواياه ببناء أضخم متحف في العالم، ومن ستكون أجمل من "الخروف المُبجّل" لتُزين جدران متحفه؟ 

 

عندما بدأت الجيوش الألمانية بالزحف لبلجيكا، عرف البلجيكيون أن المباني والأرض لن تُنقل، ولكن التُحفة الفنية الآسرة تستطع الهرب، فخبؤها في فرنسا التي نعلم جميعًا أن النازيين احتلوا أراضيها وفنونها فوقعت اللوحة في قبضة هتلر الذي نقلها إلى جانب 6 ألاف قطعة فنية أخرى إلى منجم ملح على الحدود الفرنسية ولذلك لأجوائه الجافة والمثالية لحفظ اللوحات من التلف. 

 

Men looking at a painting

Description automatically generated

 

 

وبينما كانت اللوحة المخطوفة ترتعد في ظلمات المنجم، وقعت لفرقة "رجال الأثار"، التي كانت متخصصة بتقفي آثار القطع الفنية المسروقة وإعادتها لمواطنها، صدفة عجيبة. فبينما كانت الجماعة تبحث بعشوائية في أطراف فرنسا عن القطع الفنية، أُصيب أحد الجنود بألم شديد في أسنانه فذهب مع زميله لطبيب أسنان بالمنطقة الذي عَلِم أنهم من فرقة "رجال الأثار" فعرض عليهم أن يتناقشوا مع ابنه المولع بالفنون والذي كان يعمل كمستشار فني لدى هيتلر فربما يُفيدهم في مهمتهم. وعندما التقوا بالابن كشف لهم عن خطة هتلر بحبس القطعة الفنية في منجم الملح وتفجيره في أي لحظة ممكنة لأنه بدأ يشعر باقتراب الهزيمة.

 

 

 

شكّلت فرقة "رجال الأثار" مهمّة عاجلة لمحاصرة المنجم، فنجحوا في مهمتهم واستعادوا اللوحات من بينها الجوهرة الفنية "العجل المُبجّل" التي تُزيّن لوقتنا الحالي مذبح كنيسة سانت جون في مدينة غانت ببلجيكا بتسع عشرة لوحة أصلية ونسخة واحدة للوحة المسروقة التي كانت تُمثّل القضاة وهم يسيرون على الخيول. رسم هذه النسخة المطابقة للوحة الأصل الفنان جيف فان دير فيكن الذي اُتهم بحوله على الأصل لفرط التشابه بين اللوحتين. ولكن ردّ الباحثون هذه المزاعم بعد تفتيش وتحقيق مطوّل للوحة وأكدوا أنها مجرد نسخة.

 

تعليقات

ما أحبه القرّاء