وهمّ السعي إكسير الحياة

  

وهمّ السعي إكسير الحياة

 





يصيح هاتفي كل يوم في تمام الساعة الثامنة، أصفقه، أقوم من السرير، أتخبط في أرجاء المنزل لساعة وأنا أبحث عن حقيبتي في الصالة، وأجهز فطوري سريعًا في المطبخ، أخرج من المنزل، أعمل لثمان ساعات، أعلق في زحمة الرياض لنصف ساعة، أصل للمنزل وأتغدى، أرتاح لساعة، ثم أكمل ما تبقى من قائمة مهامي، وأخيرًا أتابع مسلسل ذا أوفيس إلى أن أنام.

 

كل يوم أعيد الأحداث نفسها، بالرتابة نفسها، والعجلة نفسها، والركض نفسه. ولكني اليوم أقف وأسأل نفسي "ما الجدوى؟"

 

ما نفع قائمة المهام أن شُطبت كل ليلة؟ ما المتعة الكبرى التي يمنحني إياها "ذا أوفيس"؟ ما جدوى صفحات الكتب التي اقرأها أو ساعات البودكاست التي أسمعها؟ ما جدوى السعي؟

 

نيتشه وجدوى الحياة

 

تبنّى الفيلسوف الألماني نيتشه في مراهقته وبداية شبابه فلسفة شوبنهاور. فالحياة بالنسبة له لم تكن سوى ضرب من ضروب المعاناة، ولو حاول الإنسان الاستمتاع فيها فسيسقط في بئر المعاناة أبعد وأبعد. لذا ما علينا فعله هو نبذ متع الحياة والركون للتقشف. فالسعي بالنسبة لنيتشه مجرد وهم، فما نفع الوظيفة التي تصحو لها كل يوم؟ لتتطور، وماذا بعد ذلك؟ لتترقى؟ وما بعد ذلك؟ لتتقاعد براتب ممتاز؟ لتوفر لأبنائك حياة كريمة؟ وما جدوى ذلك، فأنت في الأخير ستموت. لذا علينا فقط حبس أنفسنا في غرف مضادة للنيران وقضاء عمرنا داخلها.

 

ولكن، في خريف عام ١٨٧٦ سافر نيتشه مع مجموعة أصدقاء إلى جنوب إيطاليا لتمضية شهر في قصر سيدة ثريّة. وهناك حيث النسيم العليل والأكل اللذيذ والرفقة الطيبة، بدأت روح نيتشه تتذوّق متع الحياة. وقد أعلن في رسالة لأمه بتغيير أفكاره قائلًا "هل ستصيبك الدهشة إن اعترفت لك بشيء بدأ يتّضح تدريجيًا، ولكنه كان قد دخل لوعيي بهذه الدرجة أو تلك: اختلاف تعاليمي مع شوبنهاور؟ عمليًا أنا لا أوافقه على جميع المطروحات العامة".

 

لم تكن الأجواء الإيطالية الساحرة هي الدافع الوحيد لتغيير نيتشه لأفكاره، بل إن تأمله لسيّر الأشخاص الذين حققوا إنجازات مخلدة أو الذين أسماهم أوبرمنشن أو الإنسان الأعلى أو أصحاب الفضلى دور هام. فقد لاحظ أن أصحاب الفضلى لم يغلقوا أبواب غرفهم رافضين السعي في هذه الحياة الزائلة، بل كرّسوا جهدهم ووقتهم لتحقيق أحلامهم. 

 

ومن أبرز الشخصيات التي ساعدت نيتشه للوصول لهذه النتيجة هو غوته، الفيلسوف ومؤلف رواية آلام فارتر، الذي عمل لعقد من الزمان كموظف حكومي وطرح إصلاحات في الزراعة والصناعة والإعانة الاجتماعية وتولّى مهام دبلوماسية.

 

يؤمن نيتشه أن السعادة والحزن هما وجهين لعملة واحدة هي الحياة، فإن أردت أن يرقص قلبك فرحًا فعليك أن تتذوق مرارة الحزن والعكس صحيح. والهدف الأسمى من الحياة هو تحقيق منجز عظيم، ولا يُمكن تحقيق المنجز دون أن تُعاني. وهكذا يسير الإنسان في رحلة الحياة الزاخرة بالتقلبات سعيًا لتحقيق المنجز وبلوغ أسمى معاني أن تكون إنسانًا. 

 

تقبّل نيتشه في فلسفته صفو الحياة المتقلب، ولكن قلبه رفض الحياة ونبذها، فأُصيب في أخر أيامه بالجنون وأدخل في مصحة نفسية، ثم عاد ليعيش في معيّة والدته وأخته حتى وافته المنيّة.  

 

الإسلام والحياة الدنيا

 

يطرح الدين الإسلامي نظرة واقعية على جدوى الحياة. فالله سبحانه وتعالى يقول في القرآن الكريم (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)، فالهدف الأسمى والأهم في هذه الحياة هو أن نعبد الله، ويقول جلّ جلاله (وما عند الله خير وأبقى)، فالحياة الدنيوية هي حياة مؤقتة والمحطة الأولية لحياة لانهائية.

 

فهل يعني ذلك أننا لسنا مطالبين بالسعي؟

 

نزل الوحي على نبينا محمد وهو في عمر الأربعين فراح يدعو الناس سرًا ثم جهرًا لتوحيد الله. أما قبل الدعوة فكان يرعى الغنم ويتولّى تجارة سيدتنا خديجة رضي الله عنها، وحتى في أثناء الدعوة كان يجمع بين الدين والدنيا بدعوة الناس للإسلام والسعي في الحياة مثل أي إنسان. فعندما سئُلت عائشة رضي الله عنها عمّا كان يفعله الرسول في بيته قالت "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخصف نعله، ويخيط ثوبه، ويعمل في بيته كما يعمل أحدكم في بيته"

 

وجميع الأنبياء عليهم السلام كانوا يعملون بجانب هدف تبليغ الرسالة، فنبي الله نوح كان نجارًا، وإدريس خياطًا، وداوود حدادًا. فالدين الإسلامي يحثنا على العمل لدنيانا وآخرتنا، فالوقت الذي تقضيه في غلواء شبابك ستُسأل عنه يوم القيامة فيما أفنيته.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

تعليقات

ما أحبه القرّاء