قوّة القصص

لما نُحب سيلينا غوميز ونكره آمبر هيرد؟

 

 

قال الله تعالى ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا﴾

 

منذ أن استوطن الإنسان الأرض وقد اكتشف أنه يستطيع التواصل والكلام، وبقدم تاريخ الأرض بدأ البشر برواية القصص والحكايات حول النار ليلًا وأثناء الحصاد نهارًا. حينها، عرف الإنسان أنه من يملك حبكة شيّقة وشخصيات مؤثرة وأحداث صادقة يفوز على خصمه وينال قلب جمهوره، فرواية القصص تُعتبر من أفتك الأدوات الناعمة للسيطرة على الناس.

 

فإن أردت الحصول على فرصة وظيفية احكِ في المقابلة عن قصّة ولعك بالكتابة أو علوم الحاسب منذ كنت طفلًا، وإن كنت تتوق للفوز بقلب امرأة فاحكِ لها قصة حياتك وافتح لها جروح معاناتك، وأما إذا أرادت الدول فرض قوتها الناعمة فلتستثمر في أقلام الكتّاب ليحكوا عن أبطال البلاد وآلامها.

 

وقد شهدنا قبل أقل من عام انتصار قوّة القصة في محاكمة جوني ديب ضد آمبر هيرد. فبعد سنوات من الزواج، خرجت آمبر عن صمتها وتحدثت عن قصة تعرضها للتعنيف المنزلي لإحدى المجلات، فاستشف الجمهور أن جوني هو الشخص الذي كان يتعرّض لها، فنُبذ من ساحة هوليود وخسر عقد التمثيل في الفيلم السادس لسلسلة "قراصنة الكاريبي" الذي يُقدّر دوره بـ٢٢.٥ مليون دولار، وراجعت ماركة ديور إمكانية استمرار شراكتها معه في عطر "سافاج" خوفًا من ردّة فعل الزبائن. 

 

ولكن ردّ جوني كان ناعمًا وفعّالًا، فكل ما فعله هو أنه روى قصته في المحكمة بكل تفاصيلها ومعاناتها وهفواتها. وعلى الرغم من أن جوني مدمن للمخدرات والكوكايين ومعتدي على طليقته آمبر إلا أن الناس بعد سماعها لقصته تعاطفت معه وطالبت بعودة فيلم "قراصنة الكاريبي" وارتفعت مبيعات عطره "سافاج" من ديور ليُصبح ثاني أشهر عطر في العالم. 

 

ويعود سبب تعاطف الناس مع قصّة جوني رغم وحشيتها إلى دراسة مثيرة للاهتمام أجراها علماء الأعصاب والدماغ تؤكد أن المشاعر التي تجتاح دماغ راوي القصة تنعكس تمامًا في دماغ المستمع له، فلمّا يحكى جوني بصدق عن حزنه على الحال التي آلت به علاقته مع طليقته، فعقل المستمع له يشعر بالرثاء على الحال أيضًا، وعند وصفه بغضب النقاشات الحامية التي جرت بينه وبين طليقته، يشعر دماغ المستمع بالغضب أيضًا.

 

وقد استغل مسلسل فريندز هذه الحقائق لتمرير بعض الأفكار والمعتقدات التي لم تكن مُتقبّله في تسعينيات القرن الماضي مثل "المثلية الجنسية"، فعندما يكتشف "روس" أن زوجته مثلية تنطلق أصوات ضحكات الجماهير، فيشعر دماغك بأن المثلية موضوع مضحك، وعند حديث جوي مع الرب بأسلوب بسيط تنطلق الضحكات مرة أخرى، فيشعر دماغك بالفكاهة أيضًا.

 

 

لمِا نحفظ تفاصيل "غيم أوف ثرونز" بسهولة ونعجز عن فهم قانون نيوتن الثالث؟

 

هل فكّرت يومًا كيف لنا أن نحفظ عشرات الشخصيات في مسلسل "غيم أوف ثرونز" ونفهم حبكاته المتعددة والمُعقدة، في حين أننا نقضي ساعات طويلة لاستيعاب جملة واحدة وهي "لكل فعل ردة فعل مساوية له في المقدار ومعاكسة في الاتجاه"؟

 

اكتشف علماء الأعصاب، أننا عندما نتلقّى محتوى علمي فثلاثة مناطق فقط من الدماغ تعمل، أما إذا رُويت لنا قصّة فالدماغ بأكمله يتفاعل. فقد احتوى فيلم Interstellar على عشرات الحقائق العلمية حول الثقب الأسود والثقوب الدودية وقوانين الزمكان، وعلى الرغم من دسامة العمل علميًا إلا إن الجماهير أحبته وفهمته وحفظت أحداثه عن ظهر قلب، ولو شُرحت كل تلك القوانين بدون مورفي ووالدها في قاعات الجامعات لشعر الطلاب بصعوبة بالغة في فهمها. 

 

وفي مقابلة من برنامج Explained، كشفت فتاة ذات ذاكرة حديدية أنها تحفظ الأرقام والأحرف غير المرتبطة ببعضها مثل (أ ج ٥ * أ * د ب) عن ظهر قلب إن تخيلت كل رقم وكل حرف شخصية تتفاعل مع بعضها البعض. فالألف قد يكون شجرة وحرف الجيم جمل والخمسة واحة والنجمة نخلة وهكذا...

 

القصّة المؤثرة لجمهور مُتعاطف تفوز...

 

 لا تعني رواية أي قصّة الفوز بقلوب الجماهير، فالرواية -أولًا- يجب أن تكون صادقة في أحداثها ومشاعرها. فالجمهور ذكي ويعرف متى بالغت ومتى كذبت وترددت، فلا ننسى أن كلًا من سيلينا غوميز وهايلي بيير قد روتا قصتهما، ولكن الجمهور عرف أن قصّة سيلينا صادقة بمشاعرها وأخطائها ومعاناتها، وقصّة هايلي تغيب عنها بعض الحقائق والتفاصيل.

 

وإن كنت تملك قصّة عميقة بمعانيها وحقيقية بمعاناتها، فالرواية -ثانيًا- يجب أن تروى في المكان والوقت الصحيحين وللجمهور المناسب. فلا تستغرب إن لم تلاقِ قصّة كِفاحك لدخول الطب مع رفض القبيلة رواجًا إن رويتها لجمهور منغلق يؤمن ببقاء المرأة في المنزل وطاعتها للمجتمع طاعة عمياء، ولا تنتظر أصوات الضحكات والقهقهات إن رويت حكاية طريفة أمام مجلس إدارة متجهّم الوجه.

 

 

قال الله تعالى ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ﴾

 

روى الله -سبحانه وتعالى- أكثر من 140 قصّة في القرآن، واحتوت سورة الكهف لوحدها على خمس قصص. وتنوعت أسباب رواية القصص بين أخذ العبر، وتقصي الأخبار الصحيحة للأقوام السابقة، وتسلية للمؤمنين، وتثبيتًا لقلوبهم. ولنا من توجه القرآن لرواية القصص عِبرًا كثيرة.