٢١ يناير: أنا والصديقات والبجيري

  

 

 

 

 

٢١ يناير: أنا والصديقات والبجيري 

 

 

 








تواعدنا أنا وصديقتي وصديقاتنا من سلطنة عُمان أن يكون لقاءنا الأول في الدرعية عاصمة الدولة السعودية الأولى قبل ثلاثة قرون. من اللحظة الأولى التي حطّت فيها قدمي أرض مطلّ البجيري عُدت إلى عام ١٧٢٧. فقد نقلتني تدرجات البني والأبيض، والمطاعم والمرافق المتزيّنة بالطراز السلماني، والجدران المصبوغة بلون بيجي طيني خشن، وقمّم المباني المثلثة المصبوغة باللون الأبيض، والنخيل وأشجار السدر المنتشرة في الأرجاء إلى يوم بدينا. 

 

انطربت أذني لتغريدات العصافير ودقات طبول العرضة التي طلب الأمير عبد العزيز بن محمد بن سعود، نجل الإمام المؤسس، أن تُدق لأول مرّة في عام ١٧٦٥ لردع قوّات حاكم الأحساء وأمير الرياض اللذين وحدّا القوى في محاولة يائسة لإسقاط الدرعية. بعد أن تجمّعنا نحن الأربعة عند مطاعم مطلّ البجيري رفعت صديقتي أصبعها السبابة لأنفها، ففهمت الإشارة، واستنشقت رائحة المكان، فداعبت رائحة البخور والنخيل والطين المبلل أنفي. 

 

لامس البجيري جميع حواسي بدءًا من تصميم يسرّ الناظرين، مرورًا بأصوات الطبول ودقّ العود وزقزقة العصافير، ورائحة البخور والطين والنخيل، وطعم القهوة المهيّلة والتمر المبثوث، وملمس نقوش الأبواب والمزهريّات. 

 


سرّنا نحن وصديقاتنا العُمانيّات على الجسر الذي يربط البجيري بحيّ طريف، واختصرت لهم في طريق ذهابنا تاريخ الدرعية في عدة جمل قائلة "تولّى الإمام محمد بن سعود حُكم الدرعية بعد وفاة والده، وفي ذلك الوقت كان حكم المدينة منقسم لمركزين. لكن الإمام قرّر أن يكون عهده بداية جديدة، فبنى حي الطريف، الذي سُميّ طريفًا لأنه يقع في طرف الدرعية وقرّر أن الحُكم سيُقام منه وليس من مكان آخر. وبعد مرور مئة سنة تقريبًا على قيام الدولة السعودية الأولى، جاءت قوات محمد علي باشا ودمّرت مباني وقصور هذه المدينة الحزينة وأحرقتها دون أي رحمة ففرّ أهلها منها. وفي السنة نفسها قامت الدولة السعودية الثانية، ولكنها اختارت الرياض عاصمة لها عوضًا عن الدرعية المجروحة."

 

بدأت الجولة في المتحف، حيث احتسينا فنجان من القهوة العربية واستمتعنا بحبات من التمر السكرّي الذهبي، وألقت المرشدة السياحية نبذة مختصرة عن تاريخ المدينة شبيهه بما تفلسفت به عند صديقاتي. بعدها صعدنا الدرجات لنصل لقمّة الدرعية، وكلما صعدنا للأعلى وجدنا متحفًا يتناول موضوعًا ما، فتارة نمرّ بمتحف يتحدّث عن حياة أهل الدرعية قديمًا، ومرة عن الخيل العربية، ومرة عن عائلة آل سعود.

 

 وفجأة ونحن نسير في الممرات الطينية، استوقفنا صراخ من خلفنا وما إن التفتنا حتى وجدنا مجموعة صبيان يرتدون ثيابًا وطواقي بيضاء يصرخون بحماس ليعلنوا لنا أنهم ختموا القرآن، وخلف هذه الجلبة سار طفل صغير غير مبالي بما يحدث وهو يقود أمامه عجلة حديدية.

 


ومع صعودنا للأعلى، غربت شمس الرياض، فتوقفنا عند إحدى المطلّات لنُشاهد تدرجات الغروب الأرجوانية على النخيل والبيوت الطينية. وما إن غابت الأضواء حتى أكملنا المسير بين منازل الدرعية، متلمسين الأبواب الخشبية المزخرفة بخطوط ودوائر ملوّنة بالأحمر ومقابضها المصنوعة من دوائر حديدية. 

 

وبينما نحن نسير استوقفنا صوت دفوف متسارع، فالتفتُ لصديقتي وهتفنا "سامري!". سارعنا الخُطى ودخلنا من باب ضيّق يفضي لساحة واسعة بين المنازل، وفي الوسط جلس الرجال في صفّين متقابلين، وبين الصفّين جلست مجموعة تحمل في أيديها طبول تقرع عليها بقوة تارة، وترفعها للسماء مرة، وتضعها في حين أمام رؤوس الراقصين الذين دبّ فيهم الحماس فراحوا يتمايلون بقوة وبسرعة يمينًا وشمالًا وللأمام والخلف مع دق الطبول.

 

وعندما انتهت الرقصة، أكمل سيرنا في أزقة الدرعية، بين البيوت التي ودّعت السكان منذ ثلاثمائة عام، ولكن في آخر الطريق لمحنا منزلًا مضيئًا فاقتربنا أكثر، ووجدنا فتاتين يترديان جلابيتين بألوان زاهية وقسمتا شعرهما لضفيرتين تُرحبان بالناس وتطلبان منّا الدخول للمنزل.

 

عندما تتقدم في ذلك المنزل فأنت ترجع بالزمن للوراء، حيث كانت النساء يُجففن التمر تحت أشعة الشمس ويصنعن الإقط بجلود الحيوانات، والأطباء يُعالجون بالأعشاب، والفتيات يتقابلن وجهًا لوجه ويُغنين ويصفقن بأيديهن أهازيج غريبة لا تتناسب مع عمرهن، والتي تتحدث عن خطبة "قشرا" للأم من ابن العم وانجابها لبنت اسمها الدرعية. 

 

أخيرًا، انهينا جولتنا في قمّة حيّ طريف، حيث كانت النخيل تصطف تحتنا، والبجيري يمتدّ أمامنا، والرياض تُحيطنا من جميع الجهات، والسماء سقفنا. 

 

تعليقات

ما أحبه القرّاء