هذه البداية

  

 

هذه البداية

 

 


 

كانت تجلس على حصير بلون الرمل، تدف بأصابعها المصبوغة بالأحمر الرحى فيختلط صوت انهراس حبّات القمح بين السطحين الحجريين بضحكات أبنائها في سطح المنزل. لم تدرك ما يقولونه، ولكن صوت صراخ عبدالله وهو يبكي، ومحاولة سعود لإسكاته وهو يقول "أمزح.. أمزح"، وشماتة عبد العزيز وهو يقول " يا البكاية"، كانت كفيلة لمعرفة لبّ الموضوع، فابتسمت رغمًا عنها.

 

سمعت دقات على الباب الخشبي، فتركت الرحى، وبسطت أصابع يديها المتيبسة، وعدّلت الشيلة الموضوعة على رأسها، وتناولت الديرم من جانبها ومررته سريعًا على فمها وهي تُسارع الخطى. وقفت أمام الباب، ورفعت ثوبها الأسود لأنفها واستنشقته، ثم رمت الديرم على الحصير، وفتحته.

 

كانت نساء الحارة قد أخذنا شكل المثلث أمام المنزل، حيث تقف أم مشاري في رأسه وأربعة نساء خلفها. قالت أم مسعود "هلا حيّاكم، تفضلوا". رفعت أم مشاري يدها في الهواء ممتنعة "الله يحييك يا أم مسعود، بس حنّا ما جينا نتقهوى. حنّا جينا نبيك بكلمة رأس". قبضت ثوبها بيدها وقالت "عسى ما شر؟".

 

 انطلق لسان أم مشاري قائلة "أبد العلم سلامتك. ولدك سعود امسكيه"، "ليه وش سوا؟". ضربت يدها المتينتين ببعضهما فاصطدمت الأسوار الذهبية مصدرة صوت جلجلة قائلة "ما غير يخوف العيال! مرة يقول لهم راح نبني بيت أطول من طويق، ومرة يقول بعد مدري كم سنة بتصير الموية تنزل من السقف." ضحكت قائلة "هذا خيال أطفـ..". تدخلت امرأة من منتصف المثلث "لا مو خيال إلا يقصد يخوفهم! امسكي ولدك. العيال ما ينامون الليل. أجل ذيك المرة يقول لهم باخترع سجادة توديني لمكة في يوم؟". ضمّت شفتيها المصبوغة بالأحمر قائلة "تمام ما يصير خاطركم إلا طيب".

 

رفعت أم مشاري يدها مودّعة وسار وفد النساء ورائها، في حين أغلقت هي الباب، وجلست على الأرض وأمسكت الرحى وراحت تطحن الحبّ مصدرة أزيزًا قويًا في المنزل. تناهى لمسمعها صوت أقدام سعود وهو ينزل الدرج ويقول "يمه بشويش أسناني تعورني من الصوت"، ودخل الصالة وهو يضع أصبعيه داخل أذنيه. لكنها أكملت الطحن، صرخ "يمه تسمعيني؟"، قالت وهي تعض على شفتها السفلى "كيف تبيني أطحن أجل؟". وقف باستسلام وأصابعه في آذانه، في حين أخذت حبّات القمح تنعم، فأخرج أصبعيه وقال لها "مين اللي جاء؟”. قالت وهي تصرّ على أسنانها وتلفّ يدها بحركة دائرية قوية "أم مشاري جت تعزمني، واعتذرت". رفعت قامتها المائلة عن الرحى، ومسكت طرف الشيلة ومسحت حبات العرق من على جبهتها، نظرت لابنها وقالت "روح جيب لنا مويه عشان أخبز للعشاء".

 

رفع طرف ثوبه ووضعه بين أسنانه وعضّ عليه وانطلق. خرج من المنزل والتقط الدلو الموضوع بجانب الباب، وراح يركض بين الطرقات الرملية والأبواب الخشبية، حتى وصل لساحة واسعة بجانب مسجد طريف، حيث كان الأطفال يلعبون بعجلة حديدية يتناوبون على دحرجتها على الطرق المتعرجة.

 

وضع الدلو جانبًا، وركض نحو الصبيّة ولمّا وصل عندهم قال "السلام عليكم"، لكنهم كانوا مشغولين وهم يراقبون عْبيد ذو الثلاث السنوات وهو يُعاني لدحرجة العجلة الحديدية. فنقر على كتف صبيٍّ وقال "مين بعد عبيد؟"، رفع الصبيّ كتفيه عاليًا وقوّس فمه. صرخ سعود وهو يرفع يده "أنا بعد عبيد"، ولكن أنظار الصبية كانت متجهة للطفل الذي كان يسير بخطى متعثرة وهو يدفع العجلة، وما إن وصل لباب المسجد حتى قفزوا عاليًا وركضوا نحوه فركض سعود معهم نحوه وأمسك بعصا العجلة الواقعة على الأرض. إلا أن صبيًا دفعه قائلًا "ما نبي نلعب معك"، أعاد طاقيته للخلف قائلًا "ليه؟"، صرخ عبيد "لأن أمي تقول إنك مجنون". اتسعت عينيه، وشعر بروحه تنكمش داخل جسده الصغير، بينما كان الصبية يضحكون ويرددون "يا المجنون.. يا المجنون.. يا المجنون"، وأحدهم يُشير بسبابته لوجه قائلًا "يا الكمخة!". أبعد يده عن وجهه وسار بخطى واسعة نحو الدلو، في حين أن الهتاف راح يتعاظم، وأعداد الأصوات تتزايد. التقط الدلو، وابتعد ركاضًا عن الأصوات.

 

 

ركض على الطرقات المتعرجة، وسقط من الأحجار المتناثرة، وتعثر من ثوبه الذي كان يحدّ من مدى اتساع خطواته فوضع طرفه في فمه وانطلق. توقف أمام السوق الذي يقع البئر خلفه تمامًا. كان الرجال والنساء والقليل من الأطفال يتبادلون البضائع والمنتجات. فأنزل ثوبه، وثبّت طاقيته على رأسه. وسار بثبات، بين الأجساد الطويلة، والنقاشات المحمومة، والبضائع الكثيرة. "هذا الخبل! هاهاها"، التفت يمينًا لشاب طويل يجلس برفقة أصحابه في متجر مليء بالسيوف والبنادق. أشار له بيده "تعال تعال.. سمعت أنك راح تخترع آلة تنزل قنابل من السماء. هاه وش صار عليها؟" أعاد طرف ثوبه في فمه وأمسك دلوه في يده وذهبا مع الريح.

 

عدا بين الناس، بين كلمة "مجنون!" هنا وهناك، عدا بالرغم من مطالبات كثيرة له بالتوقف وخوض نقاش حضاري. ابتعد حتى بات السوق بعيدًا والبئر قريبة. فسار بخطوات قصيرة، وهو ينظر لخلفه مترقبًا. وما إن وصل للبئر، حتى رمى الدلو، وجلس وأسند ظهره على جدارها الحجري وصدره يعلو ويهبط. شَعر بحلقه يضيق، وبعينيه تحترقان، فوقف نافضًا الغبار عن لباسه وتناول الدلو بيده. ووضع قدميه فوق صخرة، وربط الحبال حول بقبضة الدلو، ودلى الحبال لمياه البئر، وما إن ارتطم الدلو بالمياه، حتى رأى انعكاسًا.

 

كان انعكاسًا يشبهه، ولكنه ليس مثله. فذلك الصبيّ كان يرتدي الثوب الأبيض نفسه، والطاقية البيضاء نفسها، ويمتلك الملامح البارزة نفسها. ولكن من خلفه كان يسير جمع غفير، وتطير من فوقه أشياء كأنها العصافير، والمياه تجري من حوله، وأشجار السدر تنشر على الطرقات. تحوّل وجهه للون الرمادي وصرخ في عمق البئر "مين أنت؟"، جاءته إجابة باردة بابتسامة طفولية "أنا سعود"، رفع رأسه من البئر والتفت يمنة ويسرة، كان الهدوء يلف المكان. أعاد رأسه للداخل وصرخ "قل أعوذ برب الفلق"، ضحك من قعر البئر قائلًا "أنا إنسان، يا حليلك.. أنت من وين؟".

-       أنا.. أنا من الدرعية.

وضع الصبي يديه على رأسه وقال: لا تقولها.. لا.. لا.. مين حاكمكم؟

رفع رأسه عاليًا للسماء، فشاهد صقرًا يسبح في الفلك الأزرق، أخذ نفسا عميقًا، ثم أعاد رأسه للبئر: حاكمنا الإمام محمد بن سعود.

قفز الطفل عاليًا رافعًا قبضة يديه: أنت جيت من يوم ما بدينا... أنت البداية!

شعر بقلبه ينقبض، وعينيه تنكمش، وروحه تصعد عاليًا، قال والدموع تنفجر من عينيه ولسانه المتضخم ينطق الكلمة بصعوبة: يعني هذه البداية؟

اقترب الطفل من الماء وصرخ "ايه"، ثم وضع باطن كفه على صفحة الماء، إلا أن شبحه بذلك اختفى. وضع يديه على حافة حجر البئر ومال بجذعه حتى المنتصف وهو ينادي: سعود! سعود! وينك؟ ولكن ما من مجيب، فأعاد جسده للوراء، وقفز عاليًا رافعًا قبضة يديه "هذه البداية".

 

ترك الدلو في مكانه على الأرض، وركض. ركض نحو السوق، وشقّ طريقه بين الناس، سقط متعثرًا من ثوبه، ولكنه وقف دون أن يرفعه، ركض صارخًا "ايه أنا مجنون"، ركض ضاحكًا وباكيًا، ركض دون أن يكترث للنظرات أو للهمسات، ركض قاطعًا لعب الأطفال دون أن يطلب منهم الانضمام. كان يركض، رافعًا رأسه، كان يركض والدموع تبلل وجهه، كان يركض وقلبه يرفرف داخل جسده. وقف أمام الباب الخشبي وفتحه، فتوقف برؤيته لوالده ووالدته جالسين على الحصير، ركض نحوهم وهو يصرخ "هذه البداية!".

 

 

 

 

 

 

 

 

 

تعليقات

ما أحبه القرّاء