١٨ فبراير: هي وجسدها
١٨ فبراير: هي وجسدها
فَقَدَتْ الرغبة بمواجهة العالم. فقدت الرغبة في الكلام والضحك والقراءة وحتى الكتابة. فهي لا تُريد شيئًا سوى الاختفاء، والاعتناء برحمها الذي ينزف، وبعقلها الذي تعب، وبروحها التي انكسرت، وبعينيها التي اختفت تحت وسائد رمادية منتفخة.
لم تعد تريد أن تصبح امرأة، بل تتمنى لو كانت سلحفاة لتدخل ببساطة في قوقعتها لسنوات، لتضع بيض على الشطآن ثم تسير إلى البحر دون أن تُبالي بما سيحدث لهم. تتصدد عن كل شيء يذكرها أنها حيّة، وأنها جزء تافه من هذا العالم الفسيح.
استيقظت يوم الخميس ورغبة الهروب تعتريها، أن تهرب من عملها، من مجتمعها، من عائلتها، ومن نفسها، أن تهرب منهم جميعًا. لم تقاوم تلك الرغبة التي سيطرت على جسدها فأخذت أصابعها تتحرك على الجوّال، فحضرت جميع مدراءها، وصمّتت جميع مجموعات العمل في الواتس أب.
أدارت ظهرها لكتاب الأسبوع "عزاءات الفلسفة" فهي لم تجد برفقته أي عزاء، وخبأت دفتر يومياتها، ورمت جهاز الكمبيوتر. نست كل المهام التي تنتظرها بفارغ الصبر لتشطبها بالقلم، وكل الصفحات التي تنتظر رؤية وجهها المليء بخطوط الانكسارات، وأدارت ظهرها للصحب والأهل والرفاق. فهي لم تعد تريد أن تكون هنا، بل تُريد فقط أن تلتفت لهذا الجسد المتعب.
ما الذي حلّ به؟ هي. هي التي أهملته وقست عليه حتى انكسر قلبه، وانطفأت لمعة الحياة من عينيه، ونزف رَحِمه، ورُسمت على وجنتيه خطين طويلين مقوسين.
يقول لها طبيب التجميل أن إبرة فيلر واحدة كفيلة بإخفائهما، ولكن هل لهذه الإبرة أن تخفي صاحبته العنيدة؟ فهي ستصنع خطوطًا أخرى على هذا الجسد، مثل ما صنعت خطوطًا حول عينيه وعلى جبهته القنديلية وحول فمه وعلى رقبته.
هذا الجسد الذي لم يعد يعرف ماذا يفعل وكيف يتصرف مع هذه الروح. أعلن فجر الخميس حالة طوارئ. تبلل بالعرق، ورفض التقاط الأنفاس، وانصرعت أعصاب معدته، فاستيقظت صاحبته من شدة الألم. أراد الجسد أن يهرب منها، حاول أن يتسلل في جنح الليل وأن يهرب منها لشخص آخر، أراهن أنه رجل قوي. ولكنها تمسكت به بيأس، تعاركا على السرير، أغرقها بالعرق، فنزعت البطانية عنه. أشعل معدتها، فتلت آية الكرسي على بطنها المرسوم مثل منحوتة إيطالية. كتم عنها الأنفاس، فذُعرت هذه المرة وقامت من على السرير وفتحت أدراج الكوميدون باحثة عن شيء يقنعه بالبقاء. حاولت أن تصرخ، أن توقظ أختها التي كانت تنام بهدوء بجانبها على السرير الآخر، ولكن جسدها ضيّق عليها الخناق. خرجت من الغرفة وفتحت باب الحمام وجلست أمام الكرسي، حاولت أن تفرغ ما في بطنها، لعل جسدها يتحمّل فكرة البقاء لو رأى بطنه قد أصبح ممسوحًا وكأنه ورقة، ولكنه رفض المساومة. نزلت من على الدرج، فتحت أدراج الصيدلية بحثًا عن دواء لعلة ذلك الجسد، هيستوب، باندول نايت، أقراص للحساسية، وبروفين بقوة ٦٠٠، تناولت البروفين ووضعته في فمها وبلعت الحبة الطويلة دون كوب ماء رغمًا عن ذلك الجسد الثائر.
لكنه رفض أن يتروض ويُطيع صاحبته، فأخذ يكتم الأنفاس، وألم البطن يزداد، وبلغ القلب الحنجرة، وانهمرت الدموع على الخدين المتهدلين. دخلت الصالة وهي تنحني للأمام من شدة الألم، وجلست في الزاوية على الكنبة المجاورة للمكتبة حيث تجلس دائمًا وضمت ساقيها لصدرها، واستسلمت. سمحت لجسدها بالرحيل، أن يدعها وحدها في بقعتها الأقرب لقلبها حيث تستطيع منها أن تمد روحها للكتب فتقرأها، وتُقابل أمها التي تجلس في الكنبة المقابلة وتحتسي قهوتها كل صباح، وتُداعبها أشعة الشمس في العصر من النافذة التي تقبع خلفها. إن أراد جسدها الرحيل، فليتركها هنا. هدأت أنفاسها، واختفى ألم بطنها كليًا ودون أي تدرّج، وعاد قلبها لصدرها.
تعليقات
إرسال تعليق