القارئتان

  

 

 

القارئتان


 

 

كان زوجين في منتصف العُمر يجلسان في صالة منزلهما ويحتسيان القهوة العربية من فناجين صغيرة، ويتناولان التمر من إناء زجاجي وُضع في منتصف الطاولة الخشبية الصغيرة ويضعان البذر في صحن زجاجي في منتهى الصغر. في حين كان ابنهما مستلقيًا على الكنبة واضعًا ساقًا على ساق وهو يُبحلق في شاشة الأيباد. بدآ أن المرأة متوترة، فكلما سمعت صوت سيارة في الشارع سألت زوجها "وصلت؟"، فيجيبها زوجها دون أن يرفع عينيها عن شاشة الأيفون "لا، هذولا جيرانا"، فتعود تتنصت لكل صوت، وتفزّ كلما شعرت أنها اقتربت، سألته وهو تعصر الفنجان بين يديها "كأنها تأخرت اليوم؟"، أجاب وهو ينظر لشاشة الأيفون "شوي، الحين الساعة ست وعشر، يمكن عندهم ضغط في الجريدة اليوم".

 

 

جلس الزوجين وابنهما في صالة المنزل الرئيسية، التي رُصف حول جدارين منها كنب على شكل حرف إل الإنكليزي باللون الأسود، وكسرت وسادات باللون الأخضر الناقع رتابة السواد. في حين تزيّن الجدار الثالث بمكتبة خشبية ثقيلة، يتوسطها شاشة تلفزيون عملاقة، وحوله مجلدات كتب ثقيلة بألوان كئيبة يغلب عليها الأخضر الغامق. ولا تمتلك الغرفة جدارا رابعًا، فقد كانت الصالة الرئيسية مفتوحة على بهو المنزل الذي ينزل في وسطه درج حلزوني، وعند آخر عتباته وُضعت طاولة طعام مصنوعة من الخشب الثقيل عليها ستة كراسي لكل كرسي قاعدة مصنوعة من الإسفنج المُغطّى بقماش باللون البيج والخطوط الذهبية. وكان المطبخ الصغير والمتواضع موضوعًا في آخر البهو دون أن يُغلق عليه بأي باب، وصُممت أدراجه بحيث تتلاءم مع أثاث المنزل، فاختارت ربة البيت خشبًا بني غامق للأدرج ورخامًا أسود للطاولات. كانت أسطح طاولات المطبخ خالية من أي أطعمة أو علب للسكر أو الشاهي، وكانت الأرضية تفوح منها رائحة كلوريكس. وفي زاوية المطبخ جلست امرأة في آخر العشرين من عمرها سوداء البشرة على كرسي مطبقة فمها.

 

أصدر الباب أزيزًا يصرّ الأسنان عندما فُتح وحكّ رخام البيت الأبيض المليء بالعروق السوداء والحمراء. سألت الأم زوجها "هذه هي صح؟"، قال لها وهو يُميل رأسه يسارًا ليرى من الذي فتح الباب فرحّب بها "هلا والله". دخلت للصالة بعباءة باللون الأزرق الغامق ووقفت بجسدها النحيل وشعرها الأسود المقصوص تدريجيًا حتى أذنيها وابتسم وجهها الذي كان مثل فلقة القمر وقالت "أهلين.. كان عندنا ضغط مرة اليوم مع وصول الوفد الصيني... أحس عندك شي". وقفت الأم بحماس، وسحبت الحقيبة البنية الصغيرة من كتف ابنتها وكتاب "فن الحرب" الذي كان بيدها وحقيبة الكمبيوتر المحمول ووضعتها على الأرض وهي تعتذر "معليش والله ما بأخليك ترتاحين بس جبت عاملة وما عرفنا نتكلم معها، ما تتكلم إلا إنجليزي"، "وليندا خلاص رجعتيها؟"، "آه يا بنتي ما قدرت أصبر، ريحتها بصل وريحة البيت كلها بصل ما قدرت أستحمل، أول ما صحيت الصبح كنت مروقة ومبسوطة وأنزل من الدرج إلا أشم ريحة بصل وأنزل أكثر والريحة تزيد أكثر، ولما وصلت للمطبخ عشان أسوي قهوتي وفطوري وألاقيها جالسة على الكرسي وبيدها خبز وصحن من البصل المفروم، هناك خلاص ما قدرت. ما شربت قهوتي، على طول قلت لها ألبسي عبايتك وتعالي معي، وأخذتها للشركة وقلت ما أقدر أتحمل أكثر أبي وحدة ثانية. في البداية جت وحدة كانت سمينة ورفضت، ثم ثانية قصيرة مره ورفضت، وآخر شي عرضوا هذه علي تفحصتها ثم سألتها عادي تشتغلين في بيت كبير؟ عادي تطبخين؟ عادي تكونين العاملة الوحيدة في البيت؟ والمترجمة ترجمت لها ولمّا وافقت قلت توكلنا على الله. لكن يوم وصلت البيت تورطت ما تتكلم ولا كلمة عربي قالت لي المترجمة لها بس ست شهور في السعودية، تعالي اشرحي لها شغلنا في البيت ووريها الغرفة وروتينا اليومي".

 

رافقت الابنة أمها إلى المطبخ حيث كانت الخادمة بجسدها الهزيل والصغير ورأسها الكبير تجلس مطأطأة رأسها على الكرسي، وقد أعطى شعرها المقصوص تمامًا لمظهرها إحساسًا رجوليًا. حيّتها الابنة التي انصدمت من مظهرها الذكوري قائلة بالإنجليزية "مرحبًا"، فرفعت رأسها سريعًا وابتسمت ابتسامة واسعة كشفت عن أسنانها التي تبدو مثل حبات اللؤلؤ وردت التحية. وقفت الابنة بكياسة وعرّفت عن نفسها "اسمي مريم وأنا ابنة ربة المنزل، ما اسمك؟"، قالت بعيون ترقرق فيها الدمع "اسمي مريام".

-        "يا لها من مفاجأة! سمعتي ماما؟ اسمها مثل اسمي"

-        حملقت أمها وهي تهز رأسها: لا حبيبتي اسمها مريام بمدّ الألف وليس مريم.

-         ايه ماما كذا اسمي بالإنجليزي.

-        عمومًا خذيها في جولة حول البيت واشرحي لها طبيعة عملها والواجبات التي يجب أن تنهيها كل يوم

-        تمام. 

تركتهما سيدة المنزل لوحدها، فظلّتا تُبحلقان في بعضهما، ثم قالت مريم بعد أن فركت يديها ببعضهما "هل تريدين أن آخذك في جولة حول المنزل؟"، وقفت عن الكرسي وزفرت زفرة عميقة وهي تهزّ رأسها.

 

بدأت الجولة من غرفة الخادمة الجديدة التي كانت في الأصلِ مخزنًا خارجيًا يقع بجانب المطبخ في الفناء الخارجي. يحتوي مدخل الغرفة على غسالة ملابس عملاقة ومجفف ملابس بالحجم نفسه، ثم ينتهي لممر ضيّق حُشر فيه سريرٌ حديدي عليه مرتبة مدهوسة من الوسط وقد مال لونها الأبيض للصُفرة، وفُرش عليها مفرشٌ أحمر عليه وردة زهرية كبيرة. وفي آخر الممر يقع حمام ضيق فيه كرسي إفرنجي ومغسلة بحجم قدر الطبخ ودش استحمام معلّق فوق المغسلة حيث تستطيع غسل جسدها في الفراغ بين المغسلة والكرسي. شرحت لها أن هذه الغرفة ستكون ملاذها في فترة بقائها في المنزل، فسُعدت بذلك كثيرًا ووضعت الكيس الأبيض البلاستيكي من أيكيا والمليء بملابسها وحاجياتها الشخصية لدرجة أنه كان قاب قوسين وينشق من المنتصف على سريرها.

 

عرّفتها على غرف الدور الأرضي، وذكرت لها سريعًا طريقة ترتيب مهام الصباح، في البداية تجمع كل الأطباق المتناثرة في غرف الطابق الأرضي وتضعها بداخل مغسلة المطبخ وتنقعها بالماء الحار، ثم تمسح جميع الطاولات وتنفض عنها الغُبار وتعيد ترتيب التُحف الموضوعة عليها بمكانها وزاويتها الصحيحة، وبعد ذلك عليها أن تنفض الغبار عن الكنب وتُرتب الوسادات كما المطلوب، ثلاث مخدات خضراء، ثم مساحة فارغة لمخدتين، فثلاث مخدات، وأخيرًا في الجزء الأقصر من الكنبة تضع آخر مخدتين. وبعد أن تنتهي من ذلك تبدأ بتكنيس الأرضية بالمكنسة الكهربائية، وبعدها تمسح الأرضية بمنشفة كبيرة تُغمسها في خليط من مُنعم الملابس ونقطة أو نقطتين من الكلوريكس وثلاث نقاط من الديتول. وأخيرًا، عليها أن تُشعل الفحم وتضع ربع كرة بخور دائرية عليها وتتجول بالدخان حول المنزل. وبعد الانتهاء من غرف الجلوس تنتقل للمطبخ فتنظفه بترتيب الخطوات نفسه؛ من أسطح الطاولات وحتى الأرضية، ولكن تستبدل البخور بإشعال شمعة من ثلاث فتل برائحة اليقطين والقرفة.

 

انتهت من تعريفها على واجبات الدور الأرضي، فتأكدت منها أنها استوعبت جميع ما قالته، وطلبت منها أن تُعيد خطوات روتين الصباح فأعادت الخطوات دون أي خطأ، فانفرج فمها عن ابتسامة رضا وطلبت منها أن ترقى سلالم الدرج معها. كان الدور العلوي يتألف من دهليز صغير زُيّن بكرسيين قصيرين مصنوعين من جلد باللون البني المائل للبرتقالي ووُضع بينهما طاولة بدت وكأنها جذع شجرة مقصوص من المنتصف، وفُرش تحتها سجادة بيضاء مُزينة بخطين بنيين غامقين يدوران حول السجادة المستطيلة. كان الدهليز يفضي لثلاث غرف، دخلتا الجناح الرئيسي لوالديها المكون من غرفة نوم وخزانة ملابس كبيرة ودورة مياه فيها بانيو على شكل قوقعة فبدا على سمات وجهها الأسود الدهشة. ثم دخلتا غرفة أخاها الصغير التي كانت مليئة بدمى صغيرة منتشرة في أرفف الجدران والأرض والمكتب. وأخيرًا فتحت لها باب غرفتها، ودخلت وهي تشرح لها بالإنجليزية "بالنسبة لي فأنا لا أخرج للعمل إلا متأخرًا فلا تُنظفـ... ما بِك؟"، تلألأت عينيها وهي تقول "أ.. أنت تقرأين؟". كان أحد جدران الغرفة الأربعة يحتوي على نافذة كبيرة تُحيطها أرفف مليئة بالكتب، وتحت النافذة وُضع مقعد مُغطى بقماش رمادي مندمج مع تصميم المكتبة ذات اللون النيلي الضارب للبنفسجي. أكملت كلامها بلا مبالاة "نعم.. عمومًا كما أخبرتك فأنا أخرج متأخرة من المنزل فلا تنظفي غرفتي مبكرًا"، بينما كانت الخادمة تتلمس الكتب بأصابع يديها.. همست "قرأتِ رواية ١٩٨٤؟".

-        ابتسمت: نعم.

-         حوّطت صدرها بيديها وما رأيك بها؟

-        أممم. كيف أصفها؟.. رواية مبتكرة جدًا ومخيفة جدًا.

-         قالت بنبرة حادة: أنا أيضًا أجدها مخيفة... ويا للأثر الذي تركتها.. خاصة النهاية.

-        أوه.. النهاية مؤلمة.. لكنها تعكس رأي الراوي.. هذه الرواية تُحفة.

صمتت مريم وهي تتأمل مريام التي كانت تلتهم الكتب بنظراتها وقد توقفت فجأة وسألتها "تقرأين بالإنجليزية؟"

-       حكت شعرها وهي تقول: أحيانًا.

-        أرى أنك قرأتِ الخيميائي بالإنجليزية ما رأيك فيها؟

-        بصراحة؟

-       نعم قولي رأيك بصراحة.

-        مطّت شفتيها وقالت: سخيفة، أعني ليست الرواية بذلك السوء، ولكن تطور البطل بطيء ولم تعجبني بالنسبة لي كانت تفتقر....

-        للعمق؟

-        فرقعت بأصابعها وأشارت بأصبعها السبابة باتجاهها وهي تقول: بالضبط!

-        سحبت الرواية ذات الغلاف البرتقالي اللامع وقالت: فعلًا... خفتِ من أن أكون من محبيها؟ 

-       تعرفين محبينها يدافعون عنها باستماته. 

-       مستحيل أن أنسى ذلك اليوم الذي...

 

 دخل ربة المنزل وطرقت بأصابعها على الباب وسألت ابنتها بالعربية "خلصتوا؟"

-       ايه.. غرفتي آخر غرفة.

-        أشارت بيدها أن تتبعها وقالت: قولي لها تجيني المطبخ تساعدني نسوي العشاء. 

وجهت لها الأمر بالإنجليزية، فأعادت الكتاب مكانه وغادرت الغرفة مسرعة الخطى نحو المطبخ.

 

 

 

 

مرّ أسبوعين من قدوم مريام للمنزل. سعِدت العائلة بقدومها، ففي كل صباح كانت تتبع خطوات التنظيف بحذافيرها، وتكنس وتنفض الغبار عن الأثاث وتغسل وتجلي الأرضيات لتُصبح لامعة، وتُنهي تلك الأعمال بالتجوّل بعبق البخور حول غرف المنزل. وقد انبهرت العائلة من ترتيبها ومن شخصيتها اللطيفة أيضًا، فبالرغم من أنهم لم يطلبوا منها مساعدة بدر الطفل الوحيد والمُدلل في المنزل، إلا أنها كانت تُساعده في إعداد فطور الصباح وتُرفّه عنه بمازحات ومشاغبات طفولية، فمرة تنقر أذنه بسرعة وهو يُتابع مقطع على اليوتيوب من الآيباد فيلتفت ليصرخ "هيييه"، ومرة تتحداه أنه لن يستطيع حلّ واجباته بهذه السرعة فيمسك القلم ويتعهد أنه سيفاجئها. وقد صُعقوا من الصدمة عندما سألوها عن سبب حبها الأطفال، ففتحت هاتفها وأرتهم صورة ابنها الصغير بيتر. كان ابنها يجلس على لبنة اسمنتية، ويرتدي طقم ملابس لنادي كرة قدم أحمر، وأما شعار النادي فلا تستطيع معرفته، فقد كان مهترئًا من كثرة الغسيل، وبات الشعار مجرد دائرة عليها نقاط بلاستيكية رمادية. تلمع عينيه نباهة وذكاء، وتُذكرك أسنانه المتفرقة والفراغات بينها أنه طفلًا، في حين تقدمت أذنيه للأمام قليلًا مما أعطى لمظهره سخرية لطيفة. تفاجأت الأم عندما رأت الصورة، وأخذت الهاتف منها، ونادت ابنها بدر الذي جاء يركض متحمسًا يحسب أن سيحصل على قطعة شوكولاتة أو قطعة دونات. وجّهت له الهاتف وهي تقول "شوف ولد مريام"، شهق الطفل وقال وهو يمسك أذنيه والابتسامة لا تُفارق وجهه "أذنيه مثلي! أذنيه مثلي!". ضحكت الأم عاليًا والتفتت لابنتها وأمرتها "قولي لها أن لهم نفس الأذنين.. بس بنسوي لولدنا عملية".

 فترجمت لها بالإنجليزية: يملكان الأذنين نفسها.

 بحلقت مريام بنظرها في بدر الذي كان لا يزال يمسك أذنيه ويبتسم في حالة ذهول، وضحكت عاليًا حتى دمّعت عينيها من كثر الضحك.

 

نطرت الأم تجاه ابنتها وقالت "اسأليها"

-       الحين؟

-        ايه بسرعة.

 

كانت النساء الثلاث يجلسن في المطبخ، الأم تجلس على كرسي أسود بلاستيكي، والابنة واقفة تُقطع الخضار لتجهيز سلطة تأخذها معها في ساعات العمل، وأما الخادمة فكانت بعد نوبة الضحك قد استأنفت عملها وعادت تدعك الأواني بالصابون ثم تشطفها بالماء. تركت الابنة السكين على القطّاعة، وسألت العاملة: مريام.

أوقفت صنبور الماء، وراحت تُجفف يديها بطرف زي العمل الرسمي المكوّن من قطعتين بنطال وقميص باللون الأزرق الغامق ورُسم عليها مربعات بالرمادي والأزرق الفاتح، وردّت عليها: نعم.

-       أمي طلبت مني أن اسألك إن كانت لك أخت أو صديقة ترشحينها لتأتي وتُساعدك في العمل.

-        أنا وحيدة أهلي، فلا أخوات لي. ولكي أكون معك صريحة، أستطيع تولي مهام المنزل لوحدي لا أحتاج لمساعدة شكرًا.

ترجمت لأمها ما قالته الخادمة، فغضبت الأم: مريم أنت ما فهمتيها كويس. قولي لها إننا نبغى نجيب خادمة ثانية تساعدها لأنها زينة. يعني.. مكافأة لها.

التفت البنت للخادمة وشرحت لها الأمر: أمي تقول أن هذا عربون شكر مننا إليك، لأنك تعملين بإخلاص.

ابتسمت ابتسامة خفيفة وهي تقول: شكرًا لكم، ولكني كما قلت لك لا أحتاج لمساعدة، كما أنني اشترطت من الشركة أنني هذه المرة لا أريد العمل مع خادمات أخريات.

 

صمتت الفتاة فهي لم تعرف ما تقوله، وشرحت لأمها رد الخادمة التي ظلت صامتة وهي تنظر إليهن وهن يتناقشن. 

 

زفرت البنت نفسًا عميقًا وهي تقول: أمي تريد أن تعرف السبب.

 

وبينما كانت الأم جالسة على الكرسي واضعة يدها اليسرى تحت إبطها في حين اتكئ ذقنها على كفها اليمنى.

وضعت العاملة يديها في جيبي بنطالها وهي تتذكر: لم أستطع أن اتأقلم مع بقية الخادمات.. أعني في أول بيت عملت فيه كنت الخادمة الوحيدة. زفرت ضحكة مقتضبة وأكملت، ولكنها كانت المشكلة، فقد كنت أعمل عند امرأة عجوز لا تفقه إلا الصراخ، ونومها بحسب مزاجها، مرة تصحى مع غروب الشمس، وتارة تستيقظ الفجر، وتريديني أن أقلب نومي كل يوم بحسب مزاجها، وفوق هذا كله فلم تكن لي غرفة، ولم أمانع، ولكنها أعطتني بطانيتين خفيفتين، واحدة أفرشها على بلاط المطبخ البارد وواحدة أرميها على جسدي، ويا رهابة آلام العضلات والمفاصل إذا استيقظت كنت أشعر وكأنها برقًا كان يضرب بين مفاصلي مع كل حركة. ولا أحدثكم عن أيام عطلة الأسبوع، حيث كان جميع أولادها وبناتها الذين عجزت أن أحصي عددهم يتجمهرون في منزل والدتهم مع أطفالهم الذين يصلون لعشرين طفل على أقل تقدير. وفي إحدى الأيام لم أصبر وطلبت منها أن تُعيدني للشركة لأجد منزلًا آخر أعمل فيه. وعُدت للشركة وظلّيت هناك لثلاثة أسابيع من دون أي أجرة. إلى أن جاء رجل مسن آخر يطلب خادمة لتعمل في منزل كبير، فرفضت كل الخادمات أما أنا وافقت فقد كنت أضيع وقتي بالبقاء جالسة دون أن أجني المال. وعندما ذهبت هناك قُوبلت بالترحيب، كانوا أغنياء يخافون الله، وقد سكنت مع خادمتين من الجنسية الفلبينية في غرفة خاصة بالخدم لكل واحدة منا سرير. وُكلت لي جميع أعمال المنزل المكون من ثلاث طوابق، في حين كانت مسؤولية العاملة الأخرى تنظيف المطبخ والغسيل والكي، والعاملة الأخيرة كانت امرأة طاعنة في السن احتفظ بها الطيبين حشمة لعشرة العمر التي تقاسموها وكانت تتولى الطبخ وتُنظف المطبخ نادرًا. بقيت هناك لستة أشهر، قضيتها في روتين واحد حيث كنت كل يوم أصحى من الثامنة صباحًا ولا أستلقي على سريري إلا في العاشرة فأغرق في النوم سريعًا. وفي أحد الأيام اجتمع معي رب المنزل، قائلًا أنه يُريد نقل عقد عملي من الشركة الأم لشخصه مباشرة، فانقبض قلبي، وطلبت أن يُعطيني مهلة لأفكر، ولكني لم أرتح للأمر مطلقًا فطلبت العودة للشركة حتى أجد منزلًا آخر. حاول بالطبع أن ابقى على عقد الشركة معه، ولكنني قررت الذهاب. وعدت للشركة لمدة أسبوعين، ثمّ، قابلت والدتك وجئت إليكم.

 

كانت ترتجف وهي تحكي قصتها وشفتيها جفتا وتقطعتا، ثم التفت للمغسلة المليئة بالأواني فراحت تغسل الأطباق بينما كانت مريم تترجم لأمها القصة، التي قررت بدورها ألا تفاتحها بهذا الموضوع مرة أخرى ولا أن تطلب منها نقل عقدها لهم رغم أنها كانت تُخطط لذلك.

 

 

 

كانت الشمس تغرب من نافذة غرفة مريم الغربيّة، فانفجرت ألوان شمس الرياض الحارقة في الغرفة التي غرقت في لون أزرق نيلي ساحر، مما أضفى على جمال ألوان الكتب الملونة طابعًا ساحرًا وكأنك في أحد أفلام هاري بوتر. رقد وقفت مريام أمام الكتب مدهوشة، تتأمل الحروف العربية المعقوفة والممدودة على غلافات الكُتب محاولة تحزير العناوين والكتّاب، في حين راحت تتأمل الكتب الإنجليزية القليلة الموزعة بعشوائية وسط الأدب العربي. كانت قد قرأت أغلب العناوين الإنجليزية، إلا أن بعضها لا تعرفها. قرأت على غلاف كتاب أزرق بالإنجليزية (كافكا على الشاطئ)، فاعتراها الفضول، وتملكها الشيطان، والتفت للباب المفتوح الذي لا يظهر منه أحد، ومسكت طرف الكتاب بأصبعها الأسود النحيل وأخرجته برشاقة من بين الكتب، تأملت الغلاف وقرأت اسم الكاتب (هاروكي موراكامي)، لم تعرفه، ففتحت الغلاف الكتاب، وراحت تقرأ معلومات النشر. وبينما كانت تحاول فك لغز الكتاب باغتتها تحية مفاجئة بالإنجليزية "أهلا".

 

فزعت وشهقت وأغلقت الكتاب ووضعت يدها على صدرها وهي تتعذر: أهلًا، أعتذر، ولكني لم أستطع مقاومته، سأعيده الآن.

 

وهمّت تدفع الكتابين على الرف ليتسع المكان للرواية الضخمة لتُعيده مكانها، إلا أن مريم طمأنتها قائلة: لا بأس، هل قرأت الرواية من قبل؟

قالت وهي تحاول جاهدة إعادة الكتاب في الفراغ الضيق بين الكتب الكثيرة: لا، لم أسمع به من قبل. لذلك تملكني الفضول وفتحته، حسبته يتحدث عن فرانز كافكا.

ضحكت مريم بصوت عالٍ: لا لا، الكتاب لا يمت لفرانز المريض بأي صلة.

قالت وهي تضع الرواية في الفراغ وتدفعها لتدخل إلى الرف وتقف بين الكتب: إذن؛ عمّا تتحدث ومن هو راكومي؟

ضحكت مرة أخرى وهي تشرح لها: الروائي اسمه هاروكي موراكامي، هو كاتب ياباني والرواية هي من الخيال العلمي، في البداية رفضت قراءتها فالخيال العلمي ليس من مفضلاتي أبدًا، ولكن إحدى صديقاتي أصرت علي فقرأتها وأعجبتني كثيرًا. اسم الشخصية الرئيسية هي كافكا ولكن ليس لها علاقة بالكاتب البلجيكي.. هل قرأت لفرانز؟

-       نعم، قرأت المسخ والمحاكمة.

-       يا إلهي كم أكره فرانز، فأدبه متعب جدًا. تعرفت على فرانز في الجامعة في مقرر القصة القصيرة، كان علينا أن نقرأ المحاكمة وأن نحللها تحليلا أدبيًا، وكم كانت صعبة جدًا علي. وكم كرهته كافكا.

-        أنا أيضًا تعرفت عليه في الجامعة، ولم أحبه في البداية، لكن ما إن قرأت المسخ وتعرفت على سيرته وحياته حتى وقعت في حبه. أتعرفين أن كان يُعاني من الاكتئاب؟

-       لا عجب في ذلك فأدبه سوداوي حتى النخاع، وأما نهاية قصته فحدث ولا حرج. يا رباه كم كان مريضًا. قرأت رسائله مع حبيبته ميلينا ولم تعجبني فقد كانت مملة بالنسبة لي.

-        لستُ من محبي أدب الرسائل لذا لم اقرأها...ما هو تخصصك الجامعي؟

-        الأدب الإنجليزي.

-       أنا أيضًا تخصصت في اللغة الإنجليزية وآدابها.

ضهر على محياها ابتسامة ضيّقة وهي تستفسر: هل حصلتِ على درجة البكالوريوس؟

-       نعم، كما قلت لك في الأدب، من جامعة نيروبي.

رفعت حاجباها وحركت رأسها للأعلى والأسفل: رائع!

 

غرقتا في الصمت لبرهة، كانت اللون الأزرق ينسحب من الغرفة، والظلام الدامس يحتّل المكان ويُغطي المكتبة ويلف القارئتان. مالت مريم لمقبس المصابيح، وأنارت المكان، فبان وجهها الدائري بغمازتيه المختبئتين وسط الوجنتين الممتلئتين، وهي تقف مرتدية عباءة من الحرير اللامع البنفسجي وعلى كتفها حقيبة سوداء صغيرة وبيدها اليسرى حقيبة كمبيوتر محمول كبيرة، في حين وقفت مريام بملابس العاملة المنزلية الأخضر وخطوط رمادية على طول القميص والبنطال مكتوفة اليدين وضامة الشفتين.

 

بادرت مريم وقالت بابتسامة عريضة: أتعلمين؟ خذي رواية كافكا على الشاطئ واقرأيها. صحيح أنها طويلة فهي تقع في سبعمائة صفحة كما أتذكر، ولكنها تستحق كل دقيقة بكل صدق.

زفرت مريام نفسًا عميقًا وهي تسألها: متأكدة؟

سارت مريم للمكتبة وسحبت طرف الكتاب من بين الكتب بأصبعها الأبيض النحيل وأظافرها الطويلة التي اعتنت بها وصبغتها في مركز متخصص بالأظافر وحملت الكتاب بين يدها وقدمته لها: ما إن تنتهي منه أعيديها لي ودعينا نناقشه، فهو مثير للاهتمام.

تناولت مريام بيدها السمراوين التي يُغطيها بقع سوداء ورمادية الكتاب وقالت بعينين متلألئتين: أعجز عن التعبير عن مدى شكري لك.

قالت مريم وهي تضرب كتفها بخفة: لا تقلقي، فأنا لم أفعل شيئًا.

صرخ بدر بصوت حاد من عند الباب: أنت أيضًا يا مريام تُحبين الكتب!

ضحكت الفتاتين بصوت عالي وقالت مريام وهي تضع يديها على خصرها: نعم. هل استغربت؟

صمت لبرهة ثم قال بصوت منخفض: تريدين الصراحة؟

-       نعم

-       لم أرَ خادمة من قبل تُحب الكتب!

صرخت مريم بالعربية: بدر! عيب، لعد تقول كذا!

مدّت مريام يدها أمامها وقالت: لا بأس في ذلك. ثم وجهت كلامها لبدر: وأنت أتحب القراءة؟

-       أكرهها.

-       ماذا؟ تكرهها!

-       نعم، حاولت أن أحبها، ولكني أكرها وأحب اليوتيوب أكثر.

-       ستقع في حبها على يدي.

-        لا تحاولي فيه، فقد بذلت جهدي واشتريت له أغلى الكتب وأحلاها، تلك التي تحتوي على صور وأخرى ما أن تُقلبي الصفحة حتى تبرز لك سفينة كبيرة، لكنه لم يحبها.

-        لعله مثل ابني إذن... شكرًا لك على الكتاب.

-       العفو.

نظرت لبدر وقالت له بتحدي: من سيصل للمطبخ أولًا؟

فصرخ وهو يركض: أنا.

تلاحقا حتى المطبخ، في حين جلست مريم في غرفتها لوحدها بعد يوم عملٍ طويل.

 

 

 

 

 

بدأت الأسرة تعداد على وجود مريام وكأنه من مسلمات أي يوم عادي. واعتمدت الأم عليها تدريجيًا في الواجبات اليومية المملة، مثل مساعدة بدر لصنع فطوره الصباحي، وإعداد القهوة السعودية ظهرًا التي عانت كثيرًا حتى اتقنتها. ففي البداية كانت تنسى وضع الهيل في ترمس القهوة ثم أصبحت تضعه في وعاء القهوة وهي تغلي على النار مما أضفى عليها طعمًا مارًا، وبعد إعداد القهوة أمام نظرها لمرات وتدوين الخطوات بدقة أتقنت أخيرًا إعدادها، إلى جانب تقطيع سلطة خضار مشكلة كل يوم على الغداء، وقلي بعض المفرزنات في الزيت على العشاء. ولم تكن الواجبات التي اتقنتها على أحسن وجه هي الأمر الوحيد الذي جعل وجودها في المنزل مميزًا، بل تفاعلها مع بدر ومزاحها أعاد صوت الضحكات في صمت المنزل، ونقشاتها مع ربة المنزل بالعربية والإنجليزية المكسرة صدحت أخبارها بين الأصدقاء والأقارب فأصبحوا كل ما قابلوا الأم في اجتماع للعائلة أو الأصدقاء سألوها "ايه يا أم مريم وش آخر أخبارك أنت وخدامتك"، فتقص عليهم الطرائف فتارة قالت لها وإبريق الحليب يغلي ويكاد يخرج من فوهته "اطفأي النار بسرعة"، فركضت واطفأت أنوار المطبخ، وتارة قالت لها بعد أن طبخت مسالا هندية مشبعة بالثوم أشعلي الفحم وضعي عليه البخور فراحت وجلبت لها كوب ماء. أما مريم فوجدت نفسها في علاقة غريبة مع خادمة تعمل في المنزل لها الاهتمامات والمعتقدات الاجتماعية والفكرية نفسها، فراحت تُعيرها كتبها التي كانت تلتهمها بسرعة وبنهم لدرجة أن أمها أمرتها أن تتمهل في إعطائها كتب جديدة لأنها أمسكتها مرة وهي تقرأ وقد نسيت أن تُطفأ الفرن عن صينية المكرونة بالباشميل فاحترقت. وبعد أن قرأت جميع الكتب الإنجليزية الجديدة في مكتبة مريم، راحت تُعيد قراءة بعض الكتب التي سبق وقرأتها. 

 

وفي إحدى الأيام دخلت مريام غرفة الآنسة الصغيرة لتُرتب الملابس في الدولاب، حيث شاهدتها تجلس على مقعد القراءة ورأسها مدفون وسط كتاب ضخم على غلافه صورة لفتاة وديعة ذات شعر أسود طويل. وبينما كانت ترتب الملابس اعتراها الفضول لتعرف عنوان الكتاب، فعندما انهت عملها ووقفت عند الباب لتخرج تجرأت وسألتها عن العنوان الذي تُطالعه فقالت لها أنه باولا للكاتبة التشيلية إيزابيل الليندي، فصرخت فرحًا وحماسًا، وطلبت منها مريم ألا تحرق عليها أحداث المذكرات، إلا أنها طمأنتها بأنها لم تقرأها من قبل، ولكنها لطالما تمنت ذلك وهي فقط متحمسة لأجلها. فانكسر قلب القارئة، ولكن ملامح وجهها ظلت جامدة وصامدة ولم تُظهر أي شفقة، إلا أنها شعرت بضيقة في صدرها لازمتها اليوم كله بالرغم من كثرة المهام في مقر الجريدة في ذلك اليوم، وبعد إن انتهى الدوام لم تتجه للمنزل، بل ذهبت لمكتبة جرير واشترت لها باولا بالإنجليزية، وقدمتها لها، فقفزت فرحًا وحضنتها بقوة واحمرّت عينيها الصفراوين من شدة الحماس والتأثر.

 

وفي صباح إحدى شتاءات يناير، حيث كانت الغيوم قد توحّدت لتحجب أشعة الشمس، والهواء البارد يبحث عن أي شق وأي فتحة في جدران المنازل ليتسلل إليها، كانت مريم تضع القهوة السوداء من الكيس القصديري البرتقالي على الورق الأبيض الملفوف داخل آلة صنع القهوة الأمريكية، ثم أغلقت الغطاء الأسود وضغطت على زر التشغيل، فأصدرت الآلة أنينا حادًا، ثم بدأت قطرات القهوة تنزل إلى قاع الأبريق. وبينما كانت تتأمل قطرات القهوة وهي تنهمر في الأبريق وكأنها المطر، راحت مريام تمسح أرضية المطبخ وهي تتحدث معها: لا أصدق. تخيلي أنها عاشت لسبع سنوات، أمر لا يصدق. كيف صبرت على كل هذا الابتلاء. إن طريقتها في التنقل بين الماضي والحاضر وكيف تتحدث إلي ابنتها ساحرة للغاية، لم استطع ألا أفكر في أحداث الرواية أبدًا. لدرجة أنني أمس كدت أن أحرق قميص والدك وأنا أكويه، لأنني تذكرت فجأة كيف أرادت أن تهرب من زوجها الأول، ولكنها لم تستطع لأنها لم تكن مستقلة ماديًا. آه يا مريم. أتصدقين أنهم لم يعطوها جائزة نوبل للآداب؟ إنها من المرشحين كل عام تقريبًا إلا أنها لم تحصل عليها. وتدرين ما الذي فطر قلبي حقًا ليلة أمس، لدرجة أنني لم أنم إلا في الساعة الرابعة فجرًا، أخ لو تعلمين. تخيلي أنها تطلقت من زوجها ويلي الذي حسبته عوضها في هذه الحياة. ولكن أتعرفين أين الصدمة حقًا؟ تزوجت بعد عمر السبعين، يا لها من امرأة، أتمنى حقًا أنني يوم قابلتها كُنت أعرفها، يا لجهلي.

 

في هذه اللحظة توقفت مريم عن تأمل قطرات القهوة وهي تتجمع لتصنع لها كوب يطرب رأسها، والتفت تنظر لها بعينين واسعتين فحي استمرت مريام بمسح الأرضية بجسدها النحيل وعلى ملامح وجهها معالم التركيز التام، ففتحات أنفها زادت اتساعًا على وسعها وبياض عينيها الصفراوين أصبحا مثل الرمال الذهبية ورأسها الصغير المغطى بقبعة صوفية حمراء على قمته كرة من الصوف الأحمر راح يهتز مع كل تمريرة للفوطة على الأرضية، واكتفت بطرح السؤال الذي لم تستطع فهمه: قابلتِ إيزابيل الليندي؟

 

قالت وهي تُعيد الفوطة بتركيز في الوعاء المليء بسائل يميل للون البُني: نعم، فقد ارسلتني الجريدة لواشنطن في عام ٢٠١٨ لأغطي مؤتمرًا لصوت المرأة وإحدى الورشات التي حضرتها لأغطيها كانت إيزابيل الليندي من المتحدثات فيها إلى جانب تلك الشاعرة الأمريكية التي فازت بجائزة نوبل قبل عامين تقريبًا. ولم أكن وقتها أعرف أي منهما، كنت أحسبهما كاتبتان متوسطتان، واستغربت أن مقاعد المناقشة قد امتلأت لكني لم أحسب أنه جمهور الكاتبة.

امتقع وجهها بالأحمر وقالت لها: هل سافرتِ للولايات المتحدة؟

قالت وهي تضع يدها على ظهرها: نعم، كانت في غاية الروعة، ولكني لم أتمكن من اكتشافها فقد ذهبت لمهمة العمل فقط ولم أملك المال لأمدد إجازة فيها.

-        عجبًا!

-        أعلم، فأنا كنت أعمل في جريدة عريقة في كينيا، ولو بحثت عن اسمي باللغة السواهيرية في قوقل لوجدتِ بعض المقالات عني. لست بكاتبة كبيرة، ولكني كنت صحفية... صاعدة أو موعودة، لا أعرف ما هو الوصف الدقيق لوضعي.

-        ولِما جئتِ لهنا؟

أمسكت بوعاء الماء المتسخ وسكبته في حوض المغسلة وهي تستذكر: كانت وظيفتي جيدة. راتبها مماثل لراتبي هنا كخادمة. ولكن مع تفشي الجائحة أفلست الجريدة، ولكني لم أتخلَ عنهم، بل صرت أعمل لهم دون أي مقابل لمدة ستة أشهر وهم يوعدونا في كل مرة أنهم في الشهر القادم سيعطوننا مستحقاتنا. ولكن صبري في الأخير نفذ، فاستقلت.. أو بالأحرى ضغطت علي مديرتي وأساءت معاملتي حتى استقلت. وبعدها بقيت لستة أشهر من دون أي دخل أنا وأمي وابني. وفي إحدى الليالي زارتني إحدى صديقاتي لتودعني بعدما قررت المجيء هنا كعاملة نظافة، وحاولت إقناعي بالقدوم معها، إلا أنني رفضت متعللة أنها ما ضاقت إلا ستُفرج. ولكن الانتظار طال، وكل شيء هان بالنسبة لي أنا وأمي، إلى أن.... في الأخير قررت أن أعمل هنا، وقد أحسنت الاختيار فالأمور لم تتحسن أبدًا حتى الآن.

 

قالت وهي تصب القهوة في كوب حفظ الحرارة، وتُغلق الغطاء: حسنًا فعلتِ.. لقد تأخرت عن عملي مع السلامة.

-        مع السلامة.

 

 

 

 

كانت الرياح الباردة المائلة للدفء تهب في الرياض، فبدأت المقاهي تُخرج الكراسي والطاولات للجلسات الخارجية وتحفظ المدفئات للشتاء القادم. استمتع السكّان بالتخييم في الصحراء من بعد صلاة العصر حيث يطول الظل ويبرد الجو، ولم يتركوا جلسات الفناء الخارجي، بل استبدلوا شبّة النار واحتساء كرك بالزنجبيل الحارق بالعصائر الباردة والأيس كريم. وقد كانت العائلة جالسة في عصر يوم الجمعة في الفناء الأمامي للفيلا على كراسي مصنوعة من الحديد، ولكنها مصبوغة بلون خشبي قاتم عليه خطوط سوداء متفرقة وكأنها عروق شجرة قديمة، ووضع عليها مراتب ومخدات باللون الرمادي وفُرش تحت الكراسي سجادة من العشب الصناعي الأخضر، ووضع في المنتصف طاولة خشبية صمّاء وأمامها موقد لإشعال النار في الشتاء. جلست العائلة مستمتعة بالجو المعتدل الذي نادرًا ما تحصل عليه الرياض، وهي تحتسي القهوة العربية وتستلذ بقطعة بسبوسة تلمع من شراب شيرة صنعته الأم. وبينما كانت العائلة تتجاذب أطراف الحديث حينًا، وتصمت أحيانًا وكل واحد منهم يقضي وقته على هاتفه، كان بدر يلعب بالدراجة ويتخيّل أنه في سباق مع أصدقائه.

 

سألت الأم أفراد العائلة: باقي فيه أحد يبغى تقهوا؟

تبادلا الابنة ووالدها النظرات ونظرا لأطباق الحلى الصغيرة الفارغة، وصحن نواة التمر الممتلئ ببعض منها، وفناجين القهوة المتفرقة، وهزّا رأسيهما نفيًا.

طلبت الأم من ابنتها أن تتصل على الخادمة لتحمل الأطباق، فبادرت الابنة قائلة: ما يحتاج أنا بأشيلها.

-       لا، خليها تجي وتتعود إنها تشيل الأكل بعد ما نخلص.

-       أحس مدري فشلة.

-        لا حبيبتي مو فشلة عادي هذه شغلتها، مثل ما أنتِ كل يوم تروحين المكتب وتكتبين وتشتغلين هي جت هنا عشان تنظف ورانا وتشتغل.

نهضت الابنة من على الكرسي لتُنادي الخادمة التي كانت تعمل داخل المنزل، ولكن الأم أوقفتها قائلة: لا تروحين تنادينها دقي عليها.

-        مـ.. مدري أحس صعبة.

-       مو صعبة ولا شي أجل أنا ليش شريت لها رقم؟ ترينها جايه تشتغل عندنا مو وحدة من صديقاتك هي.

-       أدري.

-       أشوفك تجبين لها وتحطين لها، ترى الدلع الزايد للخدم مو زين. دقي عليها الحين وخليها تشيل القهوة.

 

عاودت الجلوس على الكرسي واتصلت على رقمها وهي تلعب بقطعة منديل في يدها، في حين كانت الأم تُراقبها وكأنها تتأكد من انجاز الابنة للمهمة المستحيلة، أما الأب فكان جسده موجودًا في حديقة فناء المنزل إلا أن روحه كانت في مكان آخر حيث وضع السماعات في أذنيه وراح يُتابع مقطعًا من هاتفه وقد أماله ليُصبح المقطع أفقيًا.

 

طوووط...طوووط.. لم ترد الخادمة بعد وهذا ما أشعر مريم بالارتياح، في حين عبّرت الأم عن تذمرها قائلة: وش فايدة الجوال والرقم إذا ما كانت بترد عليه!

وفي وسط طمأنينة مريم واستفزاز أمها، ردّت الخادمة: آلوو؟

-       أءءء، أهلا مريام لو ممكن إذا سمحتِ أن تأتي لتحملي أواني القهوة.

-       في الفناء؟

-       نعم.

-        سآتي في الحال.

-       شكرًا.

-        عفوًا.

 

قالت الأم وهي تفتح يديها: شفتي؟ انكسرت يدينك؟ تعبتِ؟

-       لا.

-       وشفتي كانت عادي ومبسوطة وما زعلت ولا شي لأن ما في شيء يزعل.

-       صح.

 

التفتت العائلة لصوت صرخات بدر المتحمسة الذي كان يتسابق مع مريام من الفناء الخلفي وحتى باب كراج السيارة حيث اتفقا سيكون خطّ النهاية، هو على درّاجته وهي على قدميها. كانت قد تقدمته في البداية مما جعله يركز بصمت لزيادة سرعته، ثم تخطاها فراح يصرخ فرحًا وهي تحاول موازنة خطاها لتكون خلفه بشيء بسيط.

 

قالت له وهي تلهث: سرعتك رهيبة!

ردّ عليها: أعرف ذلك.

فانفجرت بالضحك وهي تتجه لجلسة العائلة الذين ارتسمت على ملامح وجيههم ابتسامة بسيطة، أمسك الصينية الخشبية وبدأت تجمع الفناجين المتناثرة فيها والتقطت الأم والابنة الأواني القريبة منهما وناولاها لها، عندما جمعت كل عدّة القهوة حملت الصينية لتدخل بها للمطبخ.

اوقفها الأب، وهو ينزع السماعات من أذنيه بندائه: مريام.

التفت له بسرعة وقالت بالإنجليزية: نعم؟

ووجه الكلام لابنته: مريم، قولي لها أني كنت أتابع مقطع عن الديانة المسيحية، فأي كنيسة تتبعها كينيا؟

-       بابا، بتدعيها للإسلام؟!

-       يا بنت الحلال ما بأدعيها بس أبي أعرف، اسأليها.

وجهت الكلام بالإنجليزية لمريام التي كانت واقفة تُنقّل عينيها بينهما وهما يتناقشان بالعربية، وأجابتها قائلة: الكنيسة البروتستانتية.

وعندما سمع الأب الإجابة من ابنتها قال لها: إذن؛ قولي لها من هو ربك؟

-       بابا؟!

-        سؤال عادي. أنا أحترم كل الأديان بس فيني فضول أبغى اتأكد من صحة الفيديو.

-       إذن؛ بأقول لها أنك تحترم الأديان وأنه مجرد فضول ثم بسألها السؤال.

-       تمام.

ظلّ الأب يُتابع النقاش الذي لا يفهمه بين الخادمة وابنته التي رمت قطعًا نكته عنه فالخادمة فضحتها بضحكة عالية، ثم إجابتها إجابة طويلة، فردت عليها ابنته بإجابة أطول، وأخيرًا التفتت لتخبره ما جرى بينهما من نقاش.

-       تقول أن الله وعيسى ومريم هم أربابها.

-        يا الله!

-       بابا لا تبيّن إنك متفاجئ! خلّك طبيعي.

-        ايه وش كمان؟

-       بس، وقلت لها أننا نؤمن بعيسى ومريم لكنهم ليسوا أربابًا فربنا هو الله وحده. وأننا نؤمن أن لها دين ولنا دين، وأن الفضول ذبحك لتعرف حقيقة إيمانهم بثلاثة أرباب. مبسوط؟

-        ايه والله مبسوط.

ثم التفت للخادمة وقال لها بالعربية وكأنها تفهمها: احترم دينك ولك حرية ممارسة دينك في بيتنا.

ابتسمت الخادمة فظهرت أسنانها البيضاء اللامعة، والتفت لمريم التي شرحت لها احترام العائلة لدينها، ثم غادرت الفناء والضحكة لا تزال علي محيّاها.

 

كانت الشمس قد انحنت عن كبد السماء، وهبّت نسائم رقيقة، وبدأت عباءة الغروب النيلية تُغطي المكان. وانفجرت تكبيرات صلاة المغرب في وسط صمت الأحياء. رنّ جوال مريم واهتز، ردّت على المكالمة، فركضت لباب الفيلا الخارجي، وانزوت وراءه في حين مدّت يدها لعامل التوصيل الذي سلّم الطرد البريدي في يدها. ثم أغلقت الباب، وحملت الطرد بين يدها، وسارعت الخطى للمنزل، وقد أرادت أن تركض، ولكنها امتنعت عن ذلك حياءً، رقت الدرجات وكأنها في سباق، وتوجهت لغرفتها وأغلقت الباب. كانت الجدران، والمكتبة، والكتب، وحتى شخصيات الروايات ترقص فرحًا بزرقة السماء الربيعية التي امتزجت ألوانها مع المكتبة البنفسجية وترحيبًا بالقادمين الجدد. فتحت مريم الصندوق بحماس، ثم أزالت الملصق البلاستيكي عن الورقة التي لُفّت بها الكتُب. كان الكتاب الأول هو الشيخ والبحر لإرنست هيمنغواي، والثاني عزاءات الفلسفة لبوتون، وأما الثالث فهو نسختين من رواية عدّاء الطائرة الورقية باللغة الإنجليزية. تناولت إحدى النسختين، ونزلت الدرج، واتجهت للمطبخ حيث امتزجت أصوات هدير الماء وقرقعة الصحون وأغنية أفريقية تصدح من جوال هواوي مهترئ، ووقفت بجانبها بمرح وقالت: انظري ماذا وصل؟

أغلقت الصنبور، ومسحت يديها بطرف قميصيها وشكرتها: شكرًا لك، وصل بسرعة لم أتوقع ذلك. أود أن أمسك الكتاب بيدي، ولكنني لست متأكدة إن كانت جافة تمامًا، هل لك أن تضعيه لي في غرفتي؟ وأخبري والدك أن يحسم ثمن الكتاب من راتبي.

-       حسنًا.

خرجت مريم من باب المطبخ الخارجي، ودخلت غرفة العاملة التي تقع في الفناء الخلفي، وخرجت منها ووجها تعلوه ملامح الجدية. لم تدخل المطبخ، بل اتجهت للفناء الأمامي. كان والدها قد لبس ثوبه الأبيض واعتمر غترته الحمراء استعدادًا للذهاب لصلاة المغرب جماعةً في المسجد. في حين كانت والدتها وبدر جالسين على الكراسي. قالت لهم بصوت هادئ: أحد ضاع منه خمسمائة ريال؟

التفت الزوجين لبعضهما، وهزّا رأسيهما نفيًا. وقال الأب: ما أذكر حاليًا أني ضيعت فلوس وأنا ما استعمل كاش أصلًا. ليه؟

-        أنت تحوّل لمريام فلوسها صح؟

-       ايه.

-       ما تسحب كاش؟

-       على حسب علمي لا.

أكدت الأم: ايه أنا أخذها بنفسي للبنك، دايم تحول ما تسحب كاش.

قالت وهي تسحب ورقة مالية زرقاء من جيب بنطالها الجينز الأزرق: شوفوا وش لقيت تحت مخدتها؟

 

 

 

كان الليل قد اسدل ستائره على الرياض. في هذا الوقت المتأخر من الليل تكون أغلب مدن العالم قد نامت، ويخرج المجرمين والسارقين مختبئين تحت جنح الظلام. ولكن الرياض لا تنام، فهي لا تعرف الفرق بين الليل والنهار فالشوارع في جميع الأوقات ممتلئة والمطاعم والمقاهي إلا تغلق أبوابها، بل تستبدل فقط طاقم موظفيها. إلا أن منزل العائلة كان قد غطّ في نوم عميق. فجميع الغرف والممرات كانت غارقة في الظلام، إلا من مصابيح موزعة في الزوايا، لكي إذا استيقظ بدر من نومه لا يخاف. 

 

كانت مريم نائمة في غرفتها، متوسدة رأسها على يدها اليمنى ومغطية عينيها بذراعها اليسرى. والكتب المصفوفة في الأرفف غارقة في الصمت، على الرغم من ألوانها المبهجة وعناوينها المكتوبة بأحرف بارزة. تحركت قليلًا على السرير، ثم حرّكت يدها اليمنى ووضعتها على وجهها، وفتحت عينها اليمنى قليلًا، ثم سحبت الفراش وغطت رأسها. فتحت عينيها على وسعيهما تحت ظلمة الفراش، وبدأت ضربات قلبها تتسارع وكأنها طبول العرضة النجدية. دوووم... دوووم... دوووم. شخص ما في الغرفة... دووم... دووم... دووم إنها تجلس على كنبة القراءة... دووم... دووم.. دووم هي متأكدة من ذلك فعندما فتحت عينيها لمع بياض عينيها في الظلام. اضطربت أنفاسها.. وارتفع صدرها وهبط بقوة.. سمعت صوت تقليب صفحات تشيي.... ثم ساد الصمت لدقائق.. ثم تشيي أخرى. لم تعرف ما الذي ستفعله. بحثت عن هاتفها تحت الوسادة، ولكنه لم يكن هناك. 

 

جاءها سؤال من بعيد: استيقظتِ؟

انعصر قلبها خوفًا، ولكنها لم ترد عليها.

-        هل أخفتك؟

استمرت في صمتها.

-       إذا اخفتك فلا بأس في ذلك. اشعري بشعوري ولو قليلًا. لقد طعنتني في ظهري يا مريم. لن أنسى ذلك ما حييت. فأنا لا أنسى أبدًا. لا بأس خافي قليلًا. 

 

تشيي.. سمعت صوت تقليب صفحة. ثم رمت الفراش عن جسدها وصرخت: ماذا تريدين؟ 

 

كانت جالسة على كنبة القراءة، مرتدية قميص نوم من قماش مطاطي أسود اللون يصل إلى كاحلها وعليها رسومات لأزهار وردية كبيرة، وبين يديها رواية القلعة البيضاء لأورهان باموق باللغة العربية وبيدها هاتفها، وضعت أصبع السبابة على فمها وقالت: أشش، أهلك نائمون. 

ضمّت الفراش لصدرها ونحبت قائلة: ماذا تريدين مني؟ أتريدين قتلي؟! 

وجّهت الهاتف على الصفحة الجديدة التي قلبتها وهي تقول: لا يا عزيزتي لا تخافي فأنا لن أضربك ولن أقتلك، هذه ليست سماي. أنا ببساطة لم أستطع أن أنام من فرط حماسي لقراءة هذه الرواية. 

-       أقسم بالله أنك جننت. 

-       لا أنا لم أجن.. اصمتِ إذا سمحتِ فأنا أريد أن اقرأ. 

التقطت الوسادة ورمتها على الأرض وهي تصر على أسنانها: أقسم بالله أنك جننتِ، كيف تقرأين كتابًا عربيًا؟

-       أنا اترجمه لأنك لم تجلبي لي النسخة الإنجليزية... وأيضًا جئت لأخذ نقودي التي أخذتها لتشتري الرواية ولم تعيديها لي. 

-       انظروا من يتحدث!

-       مريم... كلنا نعرف الحقيقة فرجاءً لا تضعي نفسك في هذا الموقف. 

-       أي حقيقة؟

-       لن أقولها لأن لا أحد سيصدقني، وأنت أول من سينكرها. 

-       قوليها! 

أغلقت الكتاب وهي تقول: أنت التي وضعت النقود تحت وسادتي! 

-       يا لك من كاذبة!

-       نعم لهذا السبب لم أقل شيئًا لأنني علمت أنك ستنكرين. 

قامت من على سريرها ببجامتها الزهرية المكونة من بنطال قصير يصل على منتصف الفخذ وقميص بخطوط بيضاء ووردية وشعرها المنكوش الذي طال ووصل إلى كتفها، وفتحت درج الكوميدون بجانب سريرها والتقطت خمسين ريال ثم رمتها على الأرض: أتريدين نقودك؟ خذيها. وهذه غرفتي وهذا كتابي اتركيه في الحال وغادري الغرفة! وإلا ايقظت والديّ حالًا، أتسمعيني؟ 

 

وقفت بهدوء ممسكة الكتاب، ثم التفت للمكتبة وراءها ووضعته في فتحة ضيقة بين الكتب ودفعته حتى ارتصت الكتب بجانب بعضها. بعد ذلك سارت إلى حيث كانت تقف مريم، التي ارتعدت فرائصها، ولكنها أظهرت الشجاعة بوجه عبوس ويدين متكتفتين على صدرها، وتوقفت عند الورقة النقدية المرمية علي الأرض والتقطتها، ثم نظرت لها بعينين حمراوين مكتنزتين بالدموع وقالت: أتعلمين... عندما كنت أدرس في المرحلة المتوسطة، تعاركت أنا وإحدى زميلاتي على كرسي. كان الكرسي كرسيها، ولكنها لم تكن تجلس عليه، بل تجلس بجانب صديقاتها، وعندما قررت أن أخذه رفضت ذلك رفضًا شديدًا. تراشقنا أبشع الأوصاف والكلمات، ولكن جاءت معلمة اللغة الإنجليزية وأوقفتنا ثم طلبت من زميلتي أن تخرج معها خارج الصف وتحدثتا لوحدهما، ثم دخلت زميلتي وخرجت أنا. أتعلمين ماذا قالت لي؟ 

 

كانت مريم لا تزال واقفة بيدين متكتفتين على صدرها إلا أن وجنتيها ذبلتا وفمها تقوس. 

 

 أكملت مريام القصة والدموع تنهمر على خديها الأسودين: قالت لي أن الذين يتعاركون هم إما مختلفون عن بعضهم تمامًا أو متشابهين تمامًا. وأنتِ وزميلتك متشابهتين كثيرًا، فكلاكما عنيدتين وكلاكما قويتين. ونصحتني ألا أفرّط بأي شخص أرى بيني وبينه تشابه ولو ضئيل. وفي ذلك اليوم أصبحنا أنا وهي أعز صديقتين إلى يومنا هذا.

 

 كان صدرها يهبط ويرتفع ويديها تضمانها وعينيها حمراوان، تنحنحت، ثم قالت: أخرجي. مشت خطوتين للأمام، وصرخت وهي تُشير بأصبعها السبابة على الباب: قلت لك أخرجي!

 

قالت وهي تُصارع لإخراج الكلمات من شفتيها المرتجفتين: سأخرج، ولكن أريد أن أعرف السبب. لما تفعلين بي كل هذا؟

-       يا إلهي، يا لك من محبة للدراما! لم أفعل لك شيئًا! ولا يوجد أي سبب لأي شيء. اخرجي الآن. 

-       أظنك لا تريدين أن تعترفي. 

-       أعترف بماذا؟ يا لك من معتوهة ومثيرة للشفقة. لقد عاملناك أحسن معاملة وأعطيناك أحسن الملابس حتى أنني اشتريت لك.. اشتريت لك الكتب. ماذا تريدين؟ 

-       أريد أن أعرف لما تعامليني بهذه الطريقة.. لما تضعين المال تحت وسادتي وتتهميني بالسرقة. 

-       لم أفعل.. بل أنتِ فعلتِ وأنت تعلمين. 

-       لا فائدة من مناقشتك، سأخرج. 

 

جرّت قدميها حتى الباب، فتحته وخرجت دون أن تلتفت لها. 

عندما أُغلق الباب، جلست على سريرها وبدأت الدموع تنهمر من عينيها وهي تعض شفتيها، ثم وضعت وجهها على الوسادة حتى تمنع شهقاتها من الوصول للهواء والارتفاع عاليًا. 

 

 

 

 

 

مرّت أسابيع طويلة دون أن تتبادل مريم ومريام الأحاديث. تنزل مريم من غرفتها في الساعة التاسعة والنصف صباحًا، لتجد المنزل في غاية النظافة والترتيب والمبخرة موضوعة على إحدى طاولات الصالة يتصاعد طيبها في الأرجاء. تدخل المطبخ الذي تفوح منه رائحة منظف كلوريكس، فتُعدّ قهوتها مع شريحة توست محمّصة تدهنها بالفول السوداني والمربى، ثم تُعيد جميع المكونات في الأدراج وتضع الأواني داخل المغسلة، وتخرج من المنزل. 

 

تعود في تمام الساعة السادسة والنصف مساءً، تُسلم على والديها اللذين غالبًا ما يكونان جالسين في الصالة وتأخذ أخبارهما سريعًا، ثم تصعد لغرفتها لتجدها مهندمة ومرتبة في أحسن صورة فترتاح وتقرأ حتى يحين موعد نومها.

 

 ولكنها في إحدى أيام الرياض الصيفية الطويلة، عادت للمنزل وكانت الشمس تستعد لتوها لتوديع العاصمة. وقفت وهي لا تزال تحمل الحقائب بيدها لتتحدث مع والدتها سريعًا ثم تصعد لغرفتها لترتاح، ولكنها لاحظت كيسًا أحمر لمكتبة جرير، فسألتها: رحتِ مكتبة جرير؟ 

-       ايه، العاملة طلبتني تروح هناك تقول تبغى تشتري كتب ووديتها. 

-       مين حاسب؟ 

-       هي حاسبت بنفسها عن كتابها، كان ودي والله أحاسب عنها بس رفضت مره. 

-       تعرفين الكتب اللي اشترتها؟ وكثيرة ولا لا؟ 

-       لا كلها بالإنجليزي، يمكن اشترت ثلاث أو أربع كتب على ما أذكر. 

-       أمم.. ما شاء الله، يلا بأروح أرتاح في غرفتي.

 

صعد الابنة الدرج لغرفتها، في حين أكملت الأم احتساء قهوتها كما تفعل في بداية كل مساء، ولم تمرّ سوى بضع دقائق، حتى نزلت مريم من الدرجات مسرعة وعباءتها ترفرف وراءها وهي تحمل بين يديها كُتب. رمت الكتب على الكنبة، في حين حملقت الأم فيها مدهوشة، كانت ثلاثة كتب مهترئة. الكتاب الأول رواية الخيميائي البرتقالية، وقد كل الأوراق مجعدة، أما الكتاب الثاني فهي أقصوصة أين قطعة جبني؟ باللغة الإنجليزية التي مُزقت بعض أوراقها وكان الغلاف الأمامي مقطوعًا، والثالثة كانت رواية القلعة البيضاء التي انقطعت لنصفين. أشارت بأصبعها السبابة على الكتب، وقالت بأنفاس مضطربة وفتحتي أنفها الدائري اتسعتا: تشوفين وش سوّت؟ 

-       مين؟ 

-       تسألين مين؟! مريام الزفتة أجل مين. لأني سحبت عليها بعد ما سرقت منّا سوّت فيني كذا. 

-       مو شرط، خلينا نشوف بدر. 

نادت الأم ابنها، وسألته: بدر، أنت سويت كذا بكتب مريم؟ 

 

رفع سبابته عاليًا في السماء وقال وهو يغمض عينيه بقوة: لا والله مو أنا والله والله حلفت بالله.

-       خلاص حبيبي صدقتك. 

-       قلت لك أنها هي السراقة. والله لأوريها!

 

حملت مريم الكتب بين يديها وسارت بخطوات واسعة متجهة للمطبخ ولحقتها أمها وهي تحاول تهدئتها وعدلها عن هذه الحماقة "مريم والله أخاف تحقد علينا. بس يا بنت خلاص ترينها كتب". 

أكملت مريم سيرها: لا مو بس كتب. 

-       يا بنتي والله أخاف تسحرنا ولا تسوي فينا شيء. مو كذا تنحل الأمور.

 

لم تلتفت أو تسمع مريم لأي شيء مما قالت أمها، بل دخلت المطبخ وخرجت من بابه المؤدي للفناء ثم اتجهت يسارًا حيث غرفة الخادمة وفتحت الباب ودخلت الغرفة. 

 

كانت مريام مستلقية على السرير مرتدية طقم العمالة الرسمي ذي اللون الأبيض والمربعات الزهرية وبيدها كتاب موسم الهجرة إلى الشمال باللغة الإنجليزية، ونثرت على سريرها كتبٌ أخرى منها مذكرات فتاة لسيمون دي بوفوار ومذكرات آن فرانك. كانت مستلقية على جنبها الأيمن ومسندة رأسها على يدها اليمنى والكتب متناثرة حولها وكأنها تحميها من شرّ ما في تلك الغرفة الضيقة ذات السقف النازل والإضاءة البيضاء الكئيبة ومصباح دورة المياه الذي يشتغل ويطفأ، وقد كان ذلك المشهد أبدع من أن تخطه فرشة أي رسام وأبلغ من تعبير قلم أي كاتب. 

نظرت لها وسألتها: ماذا تريدين؟ 

كانت الأم واقفة عند عتبة الباب متشبثة بحلقة الباب الحديدي وكأنها تخاف أن تسقط، في حين دخلت مريم الغرفة ووقفت أمام السرير وهي تحمل الكتب، سألتها: لما قطّعتِ كتبي؟ 

أكملت قراءة كتابها وهو تقول: لم أقطعه. 

-       إذن من قطعه؟ 

-       لا أعلم.. وإذا لم تريدي شيئًا آخر فاخرجي من غرفتي. 

 

تركت الأم حلقة الباب واعتدلت في وقفتها وسألت مريام: مريام.. راح اسألك مره بس وقولي لي الحقيقة. 

أشارت إلى الكتب التي تحملها ابنتها وقالت: خربتي هذه الكتب؟ مريم ترجمي لها. 

اعتدلت مريام من وضعيتها، وجلست على السرير، وأغلقت الكتاب، ونظرت في وجه الأم قبل أن تشرع في مريم في الترجمة وقالت بالعربية: لا. 

سكتت لبرهة ثم قالت: صدّقتك. مريم.. مشينا اطلعي بسرعة من الغرفة ولّا والله ناديت أبوك بسرعة اطلعي. 

-       بس ماما.. 

-       اشش ولا كلمة اطلعي بهدوء. 

 

خرجت الأم من الغرفة ووقفت حتى خرجت ابنتها منها، وما إن خرجتا حتى أغلقت الباب وقالت لابنتها: أدري أنها هي اللي شققت الكتب، بس وش نسوي. والله يا بنتي ما أبغى أدخل مستشفى المجانين وما أصير أعرف لا عيالي ولا أمي عشان خدامة وكتب. تنازلي، سمعتِ؟

لم ترد الابنة على أمها، بل سارت بخطوات متسارعة وبضربات قوية على الأرض لداخل المطبخ، ثم رقت الدرج، ودخلت غرفتها فرمت الكتب في سلة المهملات.

 

 

 

مرّ أسبوعين على حادثة الكتب المقطوعة، وقد ناقش الوالدين مسألة طرد الخادمة من البيت، ولكن تعلّق ابنهما بدر بتلك المرأة إضافة إلى حسن ترتيبها وتنظيفها لنفسها وللمنزل يشفع بالنسبة للسيدة فعلتها. فقد مرّت عليها خادمات أسوأ منها كثيرًا وتقطيع بضعة كتب ما هو إلا فعل سخيف قد يصدر من أي خادمة، ولكنهم بالطبع ناقشوا معها المسألة بهدوء وأنذروها من ارتكاب أي حماقة أخرى. لم يعجب مريم قرار والديها واعترضت عليه كثيرًا وحذرتهما مما قد ترتكبه هذه الخادمة المخادعة بالعائلة، ولكن ذلك لم يغير من رأي والديها. 

 

كان غروب الصيف الطويل يمد أجنحته الزمرقية في السماء. نزلت مريم من سيارتها، وهي تمسك بمفتاح باب المنزل بيدها، أدارت المفتاح في الباب، ودخلت الفناء الخارجي ثم إلى المنزل. كانت الهدوء يسود المنزل، والصالة خالية من والدتها ومن قهوتها السعودية التي تُعلن حلول المساء، هتفت: السلام عليكم، فيه أحد؟ 

 

لكن أحد لم يجيبها، تركت حاجياتها على كنبة الصالة الطويلة، وتوجهت للمطبخ، ومن نافذ المطبخ رأت دخانًا أسود يتصاعد وألسنة لهب حمراء وصفراء ترقص في الهواء. فتحت باب الفناء الخارجي، فوجدت والدتها متقرفصة أمام النار، وقد تناثر على الأرض الكثير من الرماد وقطع الورق الصغار. التفتت مريم لغرفة الخادمة فوجدتها مغلقة، سألت أمها: السلام عليكم، عسى ما شر؟

التفت الأم لابنتها ووقفت على قدمها: وعليكم السلام، لا ما في شي الحمد لله. 

-       ليش شابة نار في عزّ هالحر؟

وضعت الأم يديها خلف ظهرها وأغلقت شفتيها وقالت: ولا شيء.. مريام راحت خلاص. 

-       ليه؟ 

-       بدون سبب، صحيت الصبح إلا وكل شيء مرتب ومنظف مثل كل صباح. ودخلت المطبخ وكانت موجودة وطبيعية وسويت قهوتي وشربتها وبعدها جتني ومعها جوال تكتب انجليزي وهو يترجم عربي، تقول انها استمتعت بوقتها معنا بس لازم تروح. ناديت أبوك وتفاهمنا معها، أنا الصدق أبدًا ما أصريت عليها بعد أخر الأشياء اللي سوتها، اتفقنا بس أن كل فلوسها خلاص سلمناها لها ووداها أبوك المكتب. 

-       طيب فتشتيها؟ 

-       ايه فتشت أكياس ملابسها زين وما لقيت شي. 

استندت مريم على الجدار بجانب أمها وراحت تتأمل النار ثم قالت: ما قلتِ لي ليش طيب شبيتي النار؟ 

-       الصدق.. لما رحت أفتش غرفتها لقيتها خلت الكتب اللي اشترتها. قلت لها خذيها، قالت لي خليها لمريم. ورفضت طبعًا. قلت لها أنت اشتريتيها بفلوسك وهذه كتبك، مريم ما تحتاجها، بس تخيلي أصرت أنها ما تأخذها. ولمّا طلعت مع أبوك برا البيت، دخلت الغرفة ومسكت الكتب. كتاب ورا الثاني فتشتهم زين. ما فيها ولا شي حتى يوم قلبت الصفحات ما حددت تحت أي سطر بالقلم. إلى أن وصلت لآخر كتاب. كتاب أسود صغير، أصغر واحد بينهم، وأنا أفتح أوراقه وأهزه عشان لو داخله شي يطيح إلا يطيح ظرف مكتوب عليه اسمك بالإنجليزي. 

-       طيب؟ فتحتي الظرف؟ وين حطيتيه؟ 

أشارت الأم بيدها للنار: هنا.

 

 

 

 


تعليقات

ما أحبه القرّاء