١٢ يناير: أنا والناس

 أنا والناس

(رسمة للفنان الفرنسي ايملي فراينت التي تُعبر عن الوحدة بين الناس)




أخجل، بل احمرّ خجلًا، بل أشعر بالعار من تأكيد هذه المعلومة في خلاجة نفسي، فما بالكم بإحياء هذا الاحساس بالكلمات. صدقًا، أنا أكره الناس. حاولت أن أتملص من هذا الشعور، ولكنه ما برح يلازمني. 

 

في طفولتي كنت أكل الفسحة لوحدي طوال مرحلة الابتدائية تقريبًا لأسباب -أظنها- طبقية، ليس لأني من طبقة فقيرة أو متوسطة، بل لأن والدي كان مدير أغلب زميلاتي في الصف. كانت زميلاتي كلهن يركبن باصًا واحدًا من المدرسة وإليها، وأنا أسير لوحدي على قدمي حتى منزلنا. وفي عطلات نهاية الأسبوع تجتمع زميلاتي مع بعضهن ولا أُدعى طبعًا. 

 

مرت علي صديقتين فقط خلال مرحلة الابتدائية وتشبثنا أنا وأمي بهما، فعندما أصيبت إحداهن بالعنقز اقترحت أمي أن أزورها في منزلها واشترت لي صندوقًا صغيرًا أصفر اللون مرسوم عليه دوائر ملوّنة وثبتت داخله قطعة فلين غرست فيها أعواد مثبت عليها قطع شوكولاتة صغيرة لأخذها معي. وبالرغم من الجهود التي بذلناها، إلا أن القدر فرقنا، فصديقتي السودانية عادت لبلدها، وصديقتي الأخرى سافر والدها لتوسيع تجارته.

 

عُدت وحيدة، ولكن مع بدء المرحلة المتوسط قررت أن أدفع الغالي والنفيس لأكسب قبول الزميلات. فرحت أضحكهن بأتفه الكلمات تارة، وأصدمهن بأغرب وأشجع المغامرات تارة، وما إن تخرجت من مرحلة المتوسط حتى صارت لي قاعدة جماهيرية كبيرة، ولكني هذه المرة انتقلتُ أنا من المدينة بسبب عمل والدي. غرق الفصل بالدموع في اليوم الأخير لي حزنًا على فراقي. وبعد مرور سنواتٍ طويلة، حكت لي إحدى الزميلات قائلًة "بعد رحيلك، كنا نتخيل إنك في إحدى الأيام ستفاجئيننا وتدخلين الفصل من جديد". ولكني أشك أنني سأروق لهم إذا عُدت بطبيعتي.

 

في الثانوية وجدت صعوبة لأتعرف على صديقات، ولم أوفق في ذلك أبدًا. صادقت في سنتي الثانية فتاتين من سوريا ومصر كانتا ونعم الزميلات، ولكنهما لم تشعرا أنني أشبههما كثيرًا فكانتا في بعض الأحيان قد تتركاني وحيدة لتجلسا مع زميلات أخريات. وعلى الرغم من طيبة قلبيهما وروحهما وتقاربنا الفكري، إلا أنهما عادتا لبلدهما بعد التخرج. وعُدت وحيدة.

 

وفي الجامعة قررت ببساطة ألا أنشئ أي صداقة. قلت في نفسي "الهدف واضح وصريح أتخرج في أربع سنوات بمعدل عالي وصفر صداقات". مرّ الأسبوع الأول بسلاسة، أدخل القاعة، اختار آخر مقعد، أصمت إلى أن أشعر بسيطرتي على الوضع ثم أظهر مهاراتي. وما إن تنتهي المحاضرة حتى أجمع أغراضي ثم اختبئ تحت الدرج إلى أن تبدأ محاضرتي الثانية فاحضرها وأخرج عائدة للمنزل.

 

وفي الأسبوع الثاني، بعد أن انتهت محاضرتي توجهت لملاذي السري إلا أن إحدى طالبات الصف لاحقتني. عرفتني على نفسها، فابتسمت وتركتها، ثم عادت مرة أخرى وطلبت الانضمام لي فوافقت على مضض. وعندما بدأت المحاضرة الثانية، التي كانت تأخذها معي أيضًا، سرنا سويًا للقاعة وطلبت أن نجلس في الصف الأمامي، ولكني رفضت، فجلست في مقعدها وجلست في مقعدي الأخير. لم تكتفِ بذلك، بل عادت لي بعد انتهاء المحاضرة وعرّفتني على طالبة أخرى وطلبت أن نتعاون في مشروع إحدى المواد فوافقت لأني رأيت في أعينهما لمعة الذكاء والاتزان والحماس.

 

وبذلك فشلت في تحقيق هدفي، وتخرجت من الجامعة في أربع سنوات بمعدل عالي وبصداقتين مستمرة للآن.

 

ولكني لم أتغير، فبعد أن باشرت بالعمل لم أرغب أن آكل مع أحد، ولا أن أتبادل أطراف الحديث مع أحد. يحدث كثيرًا أن استيقظ من نومي، وأتجهز للخروج من المنزل، وأذهب للمكتب وامضي ساعتين أو ثلاث وأنا غارقة في العمل لأستوعب فجأة أنني لم أقل أي كلمة اليوم! ولم أحاور أحدًا إلا نفسي، فابتسم بخجل.

 

أشعر بالخجل والعار من حُبي للوحدة. وكثيرًا ما فكرت أنني مريضة أو بي اضطراب ما. فوجود الناس حولي دائمًا يزعجني، لدرجة أنني خصصت ساعتين فقط للناس من يومي.

 

أشتاق كثيرًا أن أتحدث لشخص لساعات دون أن ينقطع حديثنا ودون أن افتح هاتفي لأرى الساعة. وبعض الأحيان، في قمة يأسي، أقول أنه مُحال. ونادرًا، في قمة سعادتي، أقول هكذا سأقابل نصفي الثاني. سواء كان حبًا أو خرافة أتمنى أن أحظى بنقاش أنسى معه الوقت قريبًا.

 

تعليقات

ما أحبه القرّاء