الزملاء السبعة
الزملاء السبعة
فهيم
ترجّل من سيارة بورشيه سوداء في المواقف السفلية، وسار باتجاه البوابة وهو يحمل بيده حقيبة مونت بلانك سوداء ويرتدي قميصًا قطنيًا أسودًا بأكمام قصيرة وبنطال جينز بلون أزرق فاتح. كان يسير وهو ينظر للأرض فتنزلق نظارته ذات العدسات الدائرية من أنفه فيُعيدها بأصبعه الأوسط. بالرغم من أنه كان يسير وهو لا ينظر إلى ما هو أمامه، إلا أنه كان لا يخطئ في موضع قدمه أبدًا ولا يصطدم بأي شخص أبدًا.
فتح الباب الزجاجي التلقائي مصراعيه عند اقترابه منه، فصفعته رائحة مجاري منفّرة. اتجه للمصاعد فضغط الزر الذي يُشير بسهمه للأعلى، دخل للمصعد الذي كان فيه امرأة تضع نقابًا أسود على وجهها لا يُظهر إلا عينيها الصغيرتين وتحمل على كتفها الأيمن حقيبة كتف رمادية. همس عند دخوله "السلام عليكم"، نظر لأزرار المصعد فوجد الرقم واحد محاطًا بخط أحمر فوقف ساكنًا مثل جندي ينتظر أوامر قائده في حين أغلق المصعد أبوابه. وبعد ثواني فقط، فتح المصعد أبوابه فمدّ يده للأمام وقال "تفضلي"، خرجت المرأة من المصعد بهدوء وهمست "شكرًا". وخرج وراءها وهو يسير برأس مطأطأ إلى يسار المصعد ثم سار على المرر الزجاجي المطل على السوق التجاري والمنتهي بثلاثة ممرات، الأيسر للمكاتب ذات المساحة الكبيرة والذي تفوح منه رائحة معطرات ثبتتها الشركات بجانب مكاتبها، والممر الأوسط والأقصر بينهما يحتوي على مكتبين فقط يمينًا وشمالًا، وأمّا المرر الأيمن والذي اتجه معه فكانت إضاءته الصفراء تُشعرك بالكآبة ورائحة جبس السقف الأبيض المنتفخ بسبب تسريبات المياه تُفجر الجيوب الأنفية. بعد أن تخطّى مكتبين فقط، وقف أمام مكتب وُضع بجانبه لوحة زجاجية كُتب عليها "شركة الكواكب للإعلان". وضع اصبعه السبابة على جهاز البصمات الرمادي، ثم تحدث الجهاز "وييلكم فهيم”.
فتح الباب ودخل للمكتب فرفع رأسه للأعلى، كان موظف الاستقبال الهندي يجلس على المكتب. رفع ذراعه للأعلى وقال "بونجوور"، ثم سار باتجاه الباب الزجاجي المثلّج ودخل إلى منطقة المكاتب فأصبح يعبر المكتب تلو الآخر وهو يقول "بونجور"، "بونجور"، "بونجور".... "بونجور يا حلوة.. شو بك مستحية؟ تعي تعي على المكتب". دخل مكتبه المطلّ على شارع التحلّية، وجلس على كرسيه الأسود خلف المكتب المصنوع من شجر البلوط البني، ووضع حقيبته على المكتب، نظر لها وقال "تفضلي" ورفع جهاز أزرق صغير ثبّت فيه سيجارته البيضاء ثم أخذ نفسًا عميقًا منها. نظر لها وهي تجلس على الكنبة الجلدية السوداء، وقال "كيفيك؟"
- الحمدالله، كيفك أنت؟
- منيح... أءء شو مزعلك؟
- ولا شيء
- بجد؟! لا.. اسمعي اسمعي.. هون ما بنستحي ههه تمام؟ احكي شو عندك.
- هه والله كل شي تمام.
- متأكدة؟
- متأكدة.
- بدك شي ولا شي؟
- سلامتك
- الله يسلمك.
خرجت من المكتب بهدوء، ولكن قاطعها صوت فهيم وهو يُنادي "براااءة، معليش تأفلي الباب؟"، عادت وهي تبتسم وأغلقت الباب الزجاجي وراءها.
استنشق السيجارة من جديد، ثم فتح الحقيبة السوداء وأخرج منها جهاز كمبيوتر رمادي اللون ووضعه على الطاولة، وفتحه ثم تصفح البريد الإلكتروني. لا يوجد رسائل مهمة، كلها رسائل تُطلعه على مدى انجاز مهام الفريق. التقط هاتفه الأسود ذا الشاشة الكبيرة ولوحة المفاتيح العريضة من شركة بلاك بيري، وبدأ يتجوّل بين فيديوهات تيك توك القصيرة.
بعد أن شاهد أكثر من خمسين فيديو، خرج من مكتبه واتجه لمكتب رئيس القسم المالي، "كييف كان الويكند؟"، "كان حلو والله"، "تجي معي للمكتب؟". انتقلا للمكتب الزجاجي، جلس هو على كرسيه الأسود وجلس هشام على الكنبة السوداء، اخرج كل منهما سيجارته وبدآ ينفثان الدخان في صمت.
- شو رأيك بالبنت الجديدة؟
- كتيير هادية
سعر باقتضاب، واحمرّ وجهه وهو يكح: بس شطورة ماهيك؟
- ايه كتير.
- شو بدك تتغدا اليوم؟
- مدري جاي على بالي كنتا..
- لا لا لا ما بحبه للمقالي، اطلب لي سلطة من شو اسمه كرست.
- تمام.
وقف من على الكرسي وخرج من المكتب ثم نادي بصوت عالي: مين بدو يتغدا معي سلطة؟
قال أحد الموظفين: أنا بس ورني خيارات السلطات اللي عندهم.
رفع جلده فوق عينيه الذي كان مليئا بالشعر في وقت ما عاليًا، وابتسم ابتسامة متقوسة للأسفل وقال: أنت بدّك سلطة!
ضحك ضحكة عالية كشفت عن أسنانه الصفراء ذات البقع البنية ووقف عن كرسيه ومسك قميصه القطني وسحبه بعيدًا عن جسده الممتلئ وقال: ايه والله أبي سلطة.
أشار بيده وقال: تعَ تعَ على المكتب.
دخلا المكتب، وانضمّ للسيجارتين ذات الرائحة الحادة، سيجارة أخرى تدمع عينيك من حدتها.
- طلبت لنا؟
ردّ هشام: ايه.
نظر فهيم باتجاه عبد الكريم الشرهان وسأله: شو صار على إعلان اليوم الوطني؟
مدّ يده للمنفضة الكريستالية على الطاولة وهزّ سيجارته البيضاء عدّ هزات: انرفضت.. قلت لك.
- انرفضت؟! والله ما يفهمون!
- الصدق الفكرة ... نقدر نقول جريئة شوي.
- جريئة؟.. هيدا اللي مفروض يكون عنّا هون بالسوق.. هذا المستوى العالمي.. شوف شو بيعملوا فرنسا.. هون ما بيفهموا.
مدّ يده للمنفضة ليضع بقايا السيجارة الصغيرة، ثم أخرج من العلبة السوداء التي كُتب عليها عبارة كبيرة باللون الأحمر "الدخان مسبب أول للسرطان" سيجارة أخرى وحشر أصابعه في جيب بنطاله وبعد محاولة طويلة أخرج قدّاحة سوداء مطفيّة اللون حُفر عليها عبارة "أنجوي ذا لايف" باللون الفضي، وثبّت السيجارة في فيه ثم أشعلها وهو يتأملها وهي تحترق، أخذ نفسًا عميقًا ورفع رأسه للأعلى ونفث الدخان في الجو "ممكن باقي ما وصلنا لهالمستوى".
- أكيد ما وصلنا.. العملاء ما يفهمون ولا شي. لازم نت تأكلهم المشروع تأكيل. الله يعينا على غبائهم.
صدحت فجأة أغنية "بوس الواوا" في أرجاء الغرفة، مدّ هشام يده اليمنى لبنطاله البيج بينما يده اليسرى تحمل السيجارة باهتمام، وأخرج هاتفه لتصدح الأغنية في أرجاء الغرفة.
- ههههه ياخي أنت ونغمتك ذي!
- الله يأرفك.. عديم تهزيب.. بتغيريها تسمعني!
ردّ على الهاتف وهو يبتسم ابتسامة مائلة: ايه.. مكتب رقم ٨.. تمام دقي الجرس.. شكرًا.
رفع فهيم حاجبيه الخاليين من الشعر وقال: دقي؟!
وقف بسرعة، وأغلق سيجارته الإلكترونية وهو يقول: يلعنها طلعت بنت.. بروح أشوفها.
- والله إنك مريض... شو يعني بتعطيك وجه؟
خرج من المكتب وقال له دون أن يلتفت "لا بس بتأكد إن الطلب صح"، "يا عينييي.. يا مريض".
سعل واحمرّ رأسه المحدب: مو حلو صح بنت تشتغل بالتوصيل؟
قال وهو يتحدث بينما السيجارة مُثبتة في فمه وهو يشعلها: أكيد عندها ظروف.
- صراحة.. أنا ما أتقبل الرجال فما بالك بنت. غريبة. يعني وين كرامتها تروح وتوصل للناس وتشحذهم فلوس.
- ما تشحذ عادي وظيفة.
- لا لا لا.. براءة موظفة.. تجلي بمكتبها بكبرياء وكرامة.. اللي بتتنقل من بيت لبيت هيدي مو وظيفة مع احترامي.
ساد الغرفة الصمت وامتلأت بالدخان والأفكار.. احسّا بالاختناق.. فهمس فهيم "نتغدا؟" فوقفا بسرعة تاركين ورائهما نقاشات عقيمة.
هشام
نزل من سيارة أوستن مارتن زرقاء، يمشى بخطى متّزنة ببنطاله البيج وقميصه الأبيض المصنوع من الكتّان. اتجه للباب الأتوماتيكي، ففُتح لتصعقه رائحة المجاري، كشرت ملامح وجهه لدقيقة وخرجت "أفف" متضجّرة من فمه الصغير. توجّه للمصعد حيث كانت تقف فتاة ترتدي عباءة باللون الأحمر القاتم بجانب المصعد. وقف وراءها لثواني، ثم فُتح المصعد. دخلت الفتاة أولًا، نظر لها وقال "عادي أدخل؟"، مدّت يدها اليسرى وأشارت للجهة الفارغة من المصعد وقالت "تفضل". دخل للمصعد، وقد وجد الفتاة ضغطت على الزر رقم واحد. مسح لحيته البنيّة الكثيفة على خديّه الكبيرين. ومطّ بإصبعه شنبه الثقيل فوق شفتيه. نظر لزر إيقاف المصعد الذي عليه كلمة ستوب حمراء بالإنجليزية وابتسم ابتسامة جانبية.
فُتح المصعد، خرجت الفتاة ومشى وراءها، عبرا الجسر الزجاجي المطلّ على السوق التجاري، اتجهت للمرّ الأيسر وتركها متجهًا للممرّ الأيمن، ولكنه التفت برأسه للخلف وراح يتأملها وهو تبتعد أكثر وأكثر حتى اختفت وراء الجدار. وصل لباب المكتب، وضع يده على جهاز البصمات "ويلكم هشام"، وفتح الباب، "قود مورنينج"، واتجه للباب الزجاجي المُنفذ لمنطقة المكاتب. "قود مورنينج"، "قود مورنينج". ودخل أخيرًا لمكتبه الزجاجي الصغير المغلق. كان مكتبه نظيفًا، ومزينًا بأشياء بسيطة. وضع على الطاولة صورة ابنه الصغير في إطار خشبي وثبّت في زاوية الإطار صورته هو في العمر نفسه حيث يظهر الشبه التام بينهما. وفي نهاية الطاولة وضع جرسين الأول باللون الأزرق كُتب عليه بالإنجليزية "درينكس" والثاني باللون الأحمر كُتب عليه "سكس".
فتح جهاز الكمبيوتر، وبدأ ينهي المهمة تلو الأخرى، يرد على بريد، ثم يطرق بأصابعه على حافة الطاولة لحنًا غير موزون. ويتلقى اتصالًا فيطرق بأصابعه على حافة الطاولة، ويرد على الرسائل وينهي المهام. وبينما كانت نظراته منصبّة على شاشة الكمبيوتر، تناهى لمسمعه طرقات خفيفة على الباب، رفع رأسه وابتسم "حيّ الله حيّ الله". دخل باسل بابتسامة عريضة "صباحو، كيف كان الويكند؟"
رجع بجسده على ظهر الكرسي وقال وهو يتثاوب "منيح... جرّبت يوم الجمعة مقهى الشيشة اللي هون جنب المكتب... رائعة يا رجل ونظيفة كتير".
قال وهو يمدّ الهاتف له والابتسامة لم تُفارق وجهه: حلو.. تعال جيت أوريك هذا الفيديو.
أخذ الجوال منه... كان يُشاهد المقطع وهو مرتاح على الكرسي.. ثم مال للأمام.. ثم حكّ لحيته البنية بيده.. ابتسم ابتسامة مائلة.. تقوّس فمه للأسفل.. وضع يده على فمه.. ثم طرق أصابعه بقوة في الجو.. نظر إليه والمقطع يُعاد.. "بتعرف شو؟"
ارتفع فكه مرتين متتاليتين للسقف.. ورمش بعينيه بقوة ثلاث مرّات "شو؟"
- "هيدي ما تنأرب، هيدي بس بدّك تطالع فيها وتتأملها".
مدّ يده بسرعة وخطف جواله من يده وأوقف المقطع "مريض!".
ابتسم ابتسامة خفيفة أظهرت جزئا بسيطًا من أسنانه البيضاء "شو؟"
- "قلت أنت مريض!"، وخرج من المكتب يجرّ وراءه قدمه.
وضع هشام يديه على سطح المكتب والابتسامة الباهتة لم تختفِ عن وجهه، ظلّ على هيئته لعدة دقائق، ولكنه لمح فهيم وهو يمرّ من أمام مكتبه فرفع يده عاليًا "بونجور"، ثم ركزّ نظره على شاشة الكمبيوتر، وعاد يرّد على رسائل البريد الإلكتروني، وما إن انتهى منها حتى فتح جدول على برنامج إكسل وراح يُدخل الأرقام ويضع المعدلات ويغرق في عالم البيانات.
وبينما هو غارق في عمله، تفاجأ بفهيم وهو يدخل لمكتبه "بونجور" "أهلا وسهلا"، "كيف كان الويكند؟"، كان حلو"، "تجي لعندي بالمكتب؟"، "تمام"، وعند مغادرته للمكتب همس "عمى.. شو بيحب يتحكّم".
خرج من مكتبه الصغير، وانتقل لمكتب فهيم الكبير الذي علّق وراء كرسيه بالضبط صورة كبيرة له تُظهره بأشعر أكثف وبشرته أصفى وبتجاعيد أقل تُظهر الحكمة والوقار دون التقليل من عمره، وعن يمين المكتب وضع صورة له وهو يضمّ موظف قديم لا أحد يتذكره وهو يستلم جائزة ما، وعن يسار المكتب مجلة حُدد حول أحد عناوينها "مقابلة مع الرئيس التنفيذي لشركة كواكب للإعلان لفهم مشهد التسويق في الشرق الأوسط" باللون الأصفر. رمى جسده على الكنبة السوداء وأخرج من جيبه سيجارة إلكترونية زرقاء اللون بنكهة الفراولة وراح يستنشق منها وينفث عبق الفاكهة في الأجواء.
- شو رأيك بالبنت الجديدة؟
قال بملامحٍ مرتاحة يظهر عليها اللامبالاة- كتيير هادية
سعر باقتضاب، واحمرّ وجهه وهو يكح ويقول: بس شطورة ماهيك؟
- هزّ رأسه وهو ينظر بعينيه للأعلى: أمم... ايه كتير.
- شو بدك تتغدا اليوم؟
- اعتدل بجلسته للأمام ولامس بنطه المنتفخ فخذيه: مدري جاي على بالي كنتا..
- لا لا لا ما بحبه للمقالي، اطلب لي سلطة من شو اسمه كرست
عاد بجسده للوراء وعصر السيجارة بيديه وقال: تمام.
خرج فهيم من المكتب ليسأل الموظفين ليأكلوا سلطة معه، في حين أخرج هشام هاتفه وفتح تطبيق توصيل الطعام وهمس "العمى شو بيحب يتخدّم"، طلب سلطة واحدة، ثم سمع صوت موظف آخر وهو يقول "أنا أبي سلطة"، فطلب سلطتين من دون أن يشاورهما بالنوع. دخلا للمكتب... كانا يتحدثان.. وكان ينظر هو من الباب الزجاجي لبراءة وهي تعمل.. تشبك أصابع يدها وترفعها للأعلى لتتمطى.. ينزلق الحجاب من رأسها فتظهر منابت شعرها الأسود.. يميل برأسه لليمين.. تسحب حجابها الأسود لنصف جبهتها.. يعود برأسه لينظر للمكتب... يُقرّب السيجارة من فمه.. تتفجر رائحة الفراولة في فمه.. يكتمها لثواني.. وتتسرب من فتحتا أنفه.. ثم يعتقها للخارج.. صدحت فجأة أغنية "بوس الواوا" في أرجاء الغرفة، مدّ يده اليمنى لبنطاله البيج بينما ما تزال يده اليسرى تحمل السيجارة باهتمام، وأخرج هاتفه ليتردد صدى الأغنية في المكان. ردّ بوجه ثابت.. ابتسم ابتسامة مائلة.. تقوّس فمه للأسفل ورفع عينيه للأعلى.. أغلق الهاتف.. "يلعنها طلعت بنت.. بروح أشوفها"، وخرج مسرعًا من المكتب وهو يخلل أصابع بين خصلات شعره البنية.
عبد الكريم الشرهان وناقم
أخرج قدمه اليسرى على الأرض ثمّ مال بجسده الممتلئ لليسار ليخرج من سيارة يارس صغيرة سوداء اللون، صدّامها مائل قليلًا وعجلتها الأخيرة في الجهة اليسرى عارية دون أن يُزينها جلنط فضي. كان يسير بخطى متثاقلة وهو عابس، وفجأة وقفت دراجة كهربائية حمراء متهالكة أمامه، وضع السائق الهندي ذي الوجه الصغير والأنف العملاق والحاجبين الكثيفين قدمه اليمنى على الشارع والتفت له وهو يبتسم "قود مورنينج"، "هلا والله صباح الخير.. كيفك؟"، "الحمد لله"، اقترب من دراجته ووضع يده على مقودها وهو يقول "ما شاء الله حلوة الدراجة"، " اشتريتها بـ١٥٠٠"، "١٥٠٠؟ والله ممتاز.. كم تأخذ عشان توصل للمكتب؟"، "يمكن ٥ دقايق"، "الله أنا أفكر اشتري دراجة عجبتني دراجتك"، "هذه سيارتك؟"، "ايه"، ليش كذا مصدومة؟ ههه".
ركن دراجته بجانب موقف المعاقين وهو يقول "تعرف سيارة مستر فهيم؟"، "ايه بورشيه صح؟، "ايه مره مره جميلة... وتعرف سيارة هشام؟"، "لا"، "سيارته أوستن مارتن.. يقدر يفتح السقف ويسكره". اقتربا من الباب الأوتوماتيكي فلفحتهما رائحة مقززة أشبه برائحة الفأران والصراصير، " إذا ما تبغى سيارتك عادي أعطني إياها.. أنت عندك سيارة أنا مسكين ما عندي"، انتفخ منخاريه وقطّب حاجبيه الشقراوين وضيّق عينيه الزرقاوين "سيارتي؟ محد يبي سيارتي.. خردة مو سيارة".
وقفا أمام المصعد، وضغط بيده البنية على السهم المتجه لأعلى ففُتح الباب ودخلا ثم ضغط على رقم واحد. وبينما المصعد يرقى للدور العلوي مصدرًا صريرًا ميكانيكًا مريبًا، قال العامل الهندي "اليوم أنا بأكلم فهيم.. عشا يزيد راتبي.. راتبي بس ١٥٠٠ ريال"، "كم سنة وأنت تشتغل هنا؟"، قال وهو يخرج من المصعد "٥ سنة.. ما في زيادة ريال.. هو كل شهر يسافر دبي لندن جدة.. فلوس كثيرة.. وأنا مسكين بس مرة وحدة زرت أهلي في الهند.. أنتم كلكم رواتبكم عالية". كانا يسران في ممر المكاتب وهو يمطّ لحيته الشقراء التي تصل لنصف رقبته " ايه بس أنت ما عندك مصاريف.. أنا كل راتبي يروح إيجار وكهرباء... عمومًا نصيحتي شوف إذا فهيم اليوم مزاجه رائق كلمه، وإذا معصب لا"، "صح أنت تفهم ومرة ذكي أنا لا". توقفا أمام المكتب، وضع يده البنية المشعرّة على جهاز البصمات فرحّب به "ويلكم ناقم" وفتح الباب وأمسك به وهو ينتظره بينما يضع أصبعه على جهاز البصمات الذي تعرّف عليه فقال "ويلكم عبد الكريم الشرهان"، فدخل عبد الكريم للمكتب وابتسم لناقم وهو يمسك الباب له.
أغلق الباب، ثم اتجه لمكتب الاستقبال الضخم وجلس وراءه فبان وجه الصغير أكثر تناهيًا، وفتح جواله فبدأ يُتابع مقاطع في يوتيوب لمسلسلات هندية رومانسية، وبينما هو غارق في متابعة دراما الفراق والحُب والمعجزات، تناهى لمسمعه صوت جهاز البصمات وهو يُرحّب بأحدهم فأغلق الحلقة بسرعة واعتدل في جلسته، فُتح الباب ودخل فهيم منه وصبّح عليه بوجه أبيض صافٍ مشرق "بونجور"، ابتسم له بهزّ رأسه يمينًا ويسارًا "قود مونينج سير"، ظلّت عينيه تبحلق في حقيبته مونت بلانك، جواله أسود يلمع من دون أي كسور، حذائه جميل، وحتى صلعته التي تلمع إلى أن دخل للمكاتب. رنّ الهاتف الأرضي، رفع السماعة "آلو.. أوك سير.. أوك".
غادر مكتب الاستقبال واتجه للمطبخ، غلّا المياه في مغلاة سوداء على فوهتها تجمّعت مادة بيضاء، أخرج كوبًا ورقيًا، وضع مسحوق قهوة سريعة التحضير وسكب عليها ماءًا حارًا، وضعها على صينية مصنوعة من الحديد وبجانبها ثلاث قراطيس من بسكويت الشوفان، وحملها لمكتب عبد الكريم الشرهان، حمل الصينية بيده اليسرى ووضع القهوة والبسكويت بجانب لوحة المفاتيح. شكره بابتسامة وهو يرفع يده بجانب عينه وكأنه يُحيي جنديًا، مسك الصينية بيديه وهو يقول "أكلم فهيم؟"، "باقي ما شفته ما أدري مروق أو لا". التفت ناقم للاتجاه الذي ينظر له الشرهان، كان باسل متجهًا إليهما وهو زام شفتيه، صرخ "وصلّت حدي!"، قال وهو يفتح قرطاس البسكويت ويخرج البسكويت منها ويرميها كاملة في فمه "من مين؟"، "من هشام الزفت"، ارتشف القهوة الساخنة بحذر "ليه؟"، جلس بعصبية على الكرسي الموضوع أمام المكتب وقال وعينيه ترمشان بسرعة البرق " ياخي مريض مريض..."، ارتفعت يده اليمنى للأعلى قليلًا فثبتها بيده اليسرى وهو يقول "زهقت منه ومن تفكيره". في تلك اللحظة كان الشرهان قد أنهى البسكويتات الثلاث وراح يشرب القهوة الساخنة "لازم تتقبل تفكيره خلاص.. يعني صراحة.. كيفه". رمى الصينية الحديدية على الطاولة فجأة "شباب شفتو زوجته؟"، التفتا له بسرعة وظلّا يُبحلقان فيه، إلا أنه أكمل "مره مره حلوة.. نحيفة.. شعرها أشقر طويل.. كأنها عارضة أزياء... زوجتي ما عندها فلوس عشان تير حلوة"، وقف بسرعة من على الكرسي ورفع السبابة عاليًا وصرخ “عيب! استح على دمك! روح.. روح بسرعة!"، فحمل العامل المسكين الصينية بسرعة وغادر المكان.
جلس بعصبية على الكرسي، وهو يهز قدمه وينظر للأمام بفمه المزموم الصغير ووجه النحيل. أخذ عبد الكريم الشرهان ينظر لصورة سطح الكمبيوتر ويحتسي القهوة. وفي وسط هذا الجو المتوتر، أقبل عليهما جورج بجسده الممتلئ القصير وصلعته اللامعة إلا من الأطراف بجانب الأذنين، "معي شاورما من بربر؟". رفع عينيه من الشاشة "أكيد أبي ثلاثة شاورما"، قال وهو يجلس على الكرسي ويفتح جواله "وأنت يا باسل؟"، "شاورمتان"، "تمام... تبون شي ثاني؟"، "لحظة لحظة وصلّت حدي معك.. لا يكون بتطلب من التطبيق؟"، "ا.. ايه"، "بتطلب من التطبيق والمطعم هنا تحت المكتب!"، حكّ صلعته وهو يقول "الصدق ما فيني حيل. وقف بعصبية وارتفع ذقنه للسقف مرتين متتاليتين وقال بحزم "أنا بأروح، وش طلبك؟"، رفع كفيه للأعلى "والله ما نقول لا.. أبي زي طلبك". سار بخطى مضطربة تميل لليمين وخرج من المكتب.
بعد أن أنهى شرب قهوته، التي كانت بقايا السائل بداخل الكوب لا تزال تُصدر بخارًا، أخرج سيجارة سوداء إلكترونية بنكهة النعناع الحار وراح يستنشق الدخان العطِر، في حين أخرج جورج هاتفه وراح يتنقل بين تطبيقات مواقع تواصل الاجتماعي. وبينما كان كلّ واحد منهما يمارس هوايتهما في صمت، سمعا صوت فهيم العالي وهو يسأل " مين بدو يتغدا معي سلطة؟؟"
جاءه رده سريع من الشرهان: أنا، بس ورني خيارات السلطات اللي عندهم.
رفع جلده فوق عينيه الذي كان مليئا بالشعر في وقت ما عاليًا، وابتسم ابتسامة متقوسة للأسفل وقال: أنت بدّك سلطة!
شعر بحرارة تتفجر من عمق بطنه لمقلة عينيه، ضحك ضحكة عالية تكشف عن أسنانه الصفراء وكأنها جبنة تشيدر، ثم أغلق فمه بيده: ايه والله أبي سلطة.
أشار بيده وقال: تعَ تعَ على المكتب.
وقف من على كرسيه فشعر بطنه الكبير يخرج من قميصه الصغير فمطّ القماش لأسفل، ثم دخل للمكتب، وأخرج سيجارة بيضاء من علبة سوداء وأشعلها بقداحة سوداء بهدوء وتركيز كبيرين، ثم راح يستنشق دخانًا حادًا يدمي الأعين.
- طلبت لنا؟
- ايه.
رَمَقَ هشام بنظرات حادة بعدما عرف أنه طلب لتوه دون أن يشاوره في نوع السلطة، ثم ركز بنظره على فهيم الذي سأله: شو صار على إعلان اليوم الوطني؟
قال له ورائحة الفراولة المتسربة من سيجارة هشام الجالس بجانبه على الكنبة الجلد السوداء تُداعب أنفه: انرفضت.. قلت لك.
- انرفضت؟! والله ما يفهمون!
- الصدق الفكرة ... نقدر نقول جريئة شوي.
- جريئة؟.. هيدا اللي مفروض يكون عنّا هون بالسوق.. هذا المستوى العالمي.. شوف شو بيعملوا فرنسا.. هون ما بيفهموا.
رائحة الفراولة تتسلل وتسير وتخترق كل هذه الحدة المنتشرة في الأجواء وتدخل لأنفه الصغير وتداعب تلك المستقبلات الحسيّة.. يوّد أن يستنشقها.. رشفه واحدة.. نفس واحد فقط.. هو لا يشتهيها، ولكنها تتشاكس معه.. أخذ نفسًا طويلًا.. ثمّ مدّ يده للمنفضة ليضع بقايا السيجارة الصغيرة، وأخرج من علبة السجائر سيجارة أخرى فأشعلها وأخذ نفسًا طويلًا وقال وهو يُحاول أن يركز عليها وينسى الفراولة "ممكن باقي ما وصلنا لهالمستوى".
- أكيد ما وصلنا.. العملاء ما يفهمون ولا شي. لازم أنت تأكلهم المشروع تأكيل. الله يعينا على غبائهم.
صدحت فجأة أغنية "بوس الواوا" في أرجاء الغرفة... غرق في الخيالات.. داعبته أمنيات.. فكّر أن يذهب لدورة المياه... تذكر أن الطعام سيصل في أي لحظة.. تبادل مع فهيم بضع كلمات.. غرق في الصمت.. في التفاهات.. شعر بالاختناق.. تحرّك قليلًا على كنبة الجلد فأصدرت أزيزًا.. فلم يحرك ساكنًا بعدها رغم أنه غير مرتاح في جلسته.. همس فهيم "نتغدا؟".. احتفل بالاقتراح فأخذ نفسًا طويلًا من سيجارته.. وأطفأ الباقي في المنفضة.. ووقف ليُغادر المكتب.
باسل وجورج
توقفت سيارة تاهو سوداء أمام البوابة الزجاجية الأوتوماتيكية، كان يجلس في مقعد السائق عامل هندي ممتلئ الوجه وعريض الحاجبين وكثيف الشنب يبدو على ملامح الانزعاج، في حين فُتح باب الراكب ونزل منه شاب قير ونحيل تشعر أنه من هيئته أنه مراهق يدرس الصفّ الثاني متوسط وقد اُخضرت منطقة الشنب لتوه، تمسّك الرجل بالقبضة المُثبتة في سقف السيارة وأنزل قدمه اليمنى فاليسرى وأغلق الباب ثمّ تحركت السيارة. توجه للباب الأوتوماتيكي ففتح مصارعيه له، وخنقته رائحة المجاري حتّى سعل، اتجه يسارًا حيث المصاعد فرأى جورج بجسده القصير ينتظر وصول المصعد. رفع له يده عاليًا "صباح الخير"، نظر له من طرف عينيه المتورمتين "صباح النور"، "ياخي نفذ صبري!"، "من ايش هالمره؟"، "من ريحة هالمركز التجاري المقرفة"، اكتفى جورج بالصمت في حين وصل المصعد وفُتحت أبوابه فدخل إليه وضغط على زر السهمين المتنافرين، نظر إليه "تدخل؟"، ظلّ واقفًا خارج المصعد لثواني "لا.. بروح اشتكي على ذي الريحة.. تجي معي؟"، ضغط على زر رقم واحد ثم على زر المسهم المتجاذبين وهمس "لا ما فيني حيل.. بالتوفيق".
ترك المصعد وراءه وجرّ قدمه إلى الجهة اليمنى من مدخل المواقف السفلية حيث توجد السلالم الكهربائية، انتظر طويلًا أمام الدرجات وهي تظهر منبسطة ثم يرتفع حجمها، درجة... اثنتين.. أربع.. ست... وأخيرًا تجرأ ووضع قدمه على إحداها. صعد للدور العلوي واتجه يمينًا حيث يقبع في آخر الممر مكتب إدارة المركز التجاري الذي تردد عليهم كثيرًا. تارة بسبب أرض رطبة تسببت في انزلاقه، وتارة بسبب جدار متسخ ضربت يده فيه فجأة، ومرة بسبب حارس أمن لم يسمح لسائقه أن ينزل للمواقف السفلية بسبب امتلاء المواقف.
كان رجل أمن أسود البشرة بلحية طويلة تصل لعظمة الترقوة يجلس أمام الباب الحديدي الأبيض على كرسي وطاولة صغيرتين وكأنه طالب في المدرسة. أكمل سيره للباب دون أن يلتفت لرجل الأمن، وعندما تخطاه قال له بصوت ثقيل "تبغى المكتب؟"، التفت له واقترب منه أكثر "ايه"، قال وهو ينظر لهاتفه ثم مرّر نظرة خاطفة له "مقفل.. باقي محد جاء"، ضمّ ذراعيه فوق صدره وقال "متى بيجون إن شاء الله؟"، "ما أدري والله كل يوم يجون بوقت لكن غالبًا ما يعدّون ١٢"، اقترب منه أكثر ووضع كفيّه على حافة الطاولة وقال "عمومًا... كنت بأفصل عليهم.. وصّل لهم أن ريحة هذا المكان زفت! مقرفة لدرجة محد يتصورها... يا يعدلون الريحة أو بنطلع من المكتب!"، رفع عينيه من هاتفه ونظر إليه من زاوية عينيه "مين حضرتك؟"، ابتعد عنه ولم يجبه.
غادر الممر، ووقف أمام السلّم المتحرك، درجة، ثلاث درجات، عشر درجات، مسك بالدرابزين ووقف على إحداها. نزل من الدرج واتجه يسارًا حيث المصاعد، ضغط على السهم المتجه لأعلى، دخل المصعد، وضغط على رقم واحد. وصل المصعد للدور الأول وفتح أبوابه، خرج منه، قطع الممر الزجاجي، ثم اتجه يمينًا، وقف أمام مكتب "الكواكب للإعلان"، ووضع أصبعه على جهاز البصمات "ويلكم باسل"، دخل المكتب، لا أحد يجلس على كرسي الاستقبال، دفع الباب المثلّج بجسده الضئيل، سار بين المكاتب الفارغة، حتى وصل لمكتبه هو وجورج الذي كان مسترخيًا على الكرسي مغمضًا عينيه وضامًا نفسه بذراعيه الممتلئتين.
قال بأنفاس مضطربة "صاحي؟"، فزّ من مكانه وهمس "ايه.. ايه"، جلس على كرسيه الأسود المتحرّك "ليه باقي محد جاء؟"، "لأنه الأحد"، "وليه أنت جيت بدري؟"، "ههه والله شوف أنا نظامي أجي بدري أطلع بدري.. وتعرف الصبح ما في شغل فاستغل الفرصة"، "مدري كيف تعيش كذا مرتاح الضمير"، "مرتاح ونص، أنت مدري كيف تعيش وأنت حارق عمرك كذا"، ثم أعاد ظهره على ظهر الكرسي وأغمض عينيه وشبّك أصابعه فوق صدره وكأنه جُثّة جالسه. في حين جلس باسل على كرسيه وفتح جهاز الكمبيوتر وبدأ يُنجز المهام. كان يعمل بخطة ثابتة يوميًا، المهام السهلة ثم الأصعب فالأصعب فالأصعب. وبينما كان يكتب على لوحة المفاتيح بريدًا إلكترونيًا يطلب فيه من إحدى الموظفات الإسراع في إنجاز المطلوب انحرفت يده اليسرى فجأة واصطدمت في حامل الأقلام والدبابيس فسقط الكوب على الأرض وتناثرت الأقلام في كل مكان وفزّ جورج من نومه.
تسمّر في مكانه يتأمل الأقلام المتناثرة على الأرض لبرهة، ثم جلس علي ركبتيه على الأرض وبدأ يلتقط الأقلام والدبابيس الصغيرة. تأمله جورج من كرسيه ويديه ما زالت على صدره همس "الأمور تمام؟"، قال له وهو يحمل الدبوس الصغير بين أصابعه فترتجف، ويسقط منه الدبوس، ثم يحمله مرة أخرى وهو يعض بأسنانه بقوة على شفتيه "ا.. ايه"، التقط كل الدبابيس المتناثرة على الأرض دبوسًا دبوسًا ووضعها في الكوب ثم على الطاولة التي تشبّث بزاويتها ليرفع قدمه اليسرى فاليمنى تباعًا وجلس في الأخير على الكرسي الدوّار. انعكس وجهه على شاشة الكمبيوتر التي تحوّلت للون الأسود بعد أن ابتعد عنها لأكثر من خمس دقائق، اقترب من الشاشة، لمس خط شفته السفلية بباطن أصبعه، كانت أسنانه قد تركت أثرًا قويًا على شفته فأخذ يفركها بحركة دائرية لعلّ الدم يتدفق من جديد فيها. هزّ الفأرة فشعّت الشاشة بالألوان، وأكمل كتابة رسالة البريد الإلكتروني وأصابعه تضغط على أزرار لوحة المفاتيح بقوة.
"بونجور"... فزّ جورج من على كرسيه عندما سمع تصبيحه قريبة منه، مرّ فهيم من أمام مكتبهم وهو يصيح بتصبيحته اليومية "بونجور"، ولوّح بأطراف أصابعه له "صباحو". اعتدل من جلسته، وفتح جهاز الكمبيوتر، اطّلع على بريده الإلكتروني، ردّ على أحد الرسائل بالتاريخ المتوقع لتسليم الطلب. ثم فتح جوّاله وأخذ يتصفّح مقاطع تيك توك، مقطع لكريستيانو رونالدو وهو يسجّل هدفًا سريعا على أغنية "نيفير قو أواي" فمرّر أصبعه للأسفل، فظهر له مقطع لطفلة ترقص على أنغام أغنية كورية، فمرر أصبعه للأسفل، ليظهر مقطع لامرأة تسير بخطى بطيئة على الشاطئ وهي ترتدي بيكيني أحمر يكشف عن جسدها المرتوي فثبّت أصبعه على المقطع وظهرت أسنانه في ضحكة مكبوتة، التفت لباسل الذي كان منهمكًا على حاسوبه "شوف شوف" ورفع الجوال له، ارتسمت ابتسامة خفيفة على وجهه الصغير ثم ضمّ شفتيه وقال "لازم نوري هشام"، قال وهو ينظر للجوال ويحك صلعته "مافيني حيل أروح لمكتبه"، قام باسل من مكانه وقال "إذن؛ أرسل الفيديو لي أنا بأوريه"، "نظر له من طرف عينه وقال "تمام" وأرسل المقطع له فذهب باسل يجرّ الخطى متلهفًا لردة فعل هشام.
لم يُحرك جورج ساكنًا، بل ظلّ يتأمل شاشة الكمبيوتر السوداء، ينظر فيها، ولكنه غارق في عالم اللاشيء. تحرّك بؤبؤ عينيه لهاتفه على الطاولة ومدّ يده ليضغط الزرّ الجانبي كانت الساعة تُشير للحادية عشر تمامًا. أعاد يده لموضعها بالضبط وثبّت عينيه للأمام وغرق مرة أخرى في عالم الخيال، ثم حرّك عينه من جديد ومدّ يده للجوال كانت الساعة تُشير هذه المرة للحادية عشر والنصف، فاعد من جديد لأرض الأحلام.
بما كان يحلم؟ لا أحد يعرف ما يحل في عقل جورج فملامحه الحادة والجافة لا تستطيع أن تستشف منها إن كان يُغازل فتاة برازيلية أو أنه يُسجل هدفا في آخر دقيقة أم أنه مشهور وسيم تتقاتل النساء لأخذ صورة سيلفي معه. تحرّك بؤبؤ عينيه من جديد، فمدّ يده للجوال كانت الساعة تُشير للحادية عشر وخمس وأربعين دقيقة، التقط الجوال وأخذ يطّلع على آخر التغريدات المنشورة على تويتر، سلسلة تغريدات عن قصة قاتل متسلسل في أمريكا حفظها في قائمة التغريدات المحفوظة، وتغريدة عن مشهورة سعودية كشفت عن وجهها بعد أن كانت تُخفيه، وتغريدة أخرى يقول فيها الزعّاق أن الصيف سيكون شديدًا في هذا العام. رفع بؤبؤ عينيه لزاوية الجوال اليُمنى كانت الساعة تُشير للثانية عشر وخمس دقائق. مسك الجوال بقوة ورفع كلتا يديه للأعلى وتمطّى كالقطة ثم قام عن كرسيه وغادر مكتبه.
اتجه لمكتب عبد الكريم الشرهان فوجده يجلس بهدوء ويرتشف القهوة التي يتصاعد منها البخار بصوت عالي، في حين يجلس باسل على أحد الكرسيين الموجدين أمام المكتب، قال لهما "معي شاورما من بربر؟".
ردّ عبد الكريم "أكيد، أبي ثلاثة شاورما سادة"، قال وهو يجلس على الكرسي ويفتح جواله "وأنت يا باسل؟"، "شاورمتان"، "تمام... تبون شي ثاني؟"، "لحظة لحظة وصلت حدي معك.. لا يكون بتطلب من التطبيق؟"، اضطربت ملامحه وقال "ا.. ايه"، كانت عيناه ترفّان بقوّة وهو يقول "بتطلب من التطبيق والمطعم هنا تحت المكتب!"، حكّ صلعته وهو يقول "الصدق ما فيني حيل. وقف وارتفع ذقنه للسقف مرتين متتاليتين وقال بحزم "أنا بأروح وش طلبك؟"، زفر بعض الهواء من أنفه وقال "والله ما نقول لا.. أبي زي طلبك" ثمّ رفع ساقه اليمنى وثبتها فوق فخذه اليسرى وأخذ يتنقل بين تطبيقات التواصل الاجتماعي.
لم يرفع نظره لعبد الكريم، بل كان يُثبت نظره فقط على شاشة الجوّال، في كل مرة يتحرّك الشرهان فيها عن مقعده قليلًا يضيق صدره فيها، وإذا سكن في مكانه سكنت روحه فيها. فهو لا يريد شيئًا، يشعر أنه باخرة قديمة عالقة بسبب مرساة ثقيلة، تتحرّك فقط حيث ما تأخذها الأمواج وحيث ما ترميها الرياح، لا تريد أن تملك حولًا ولا قوة.
محمد البطراني
أوقف سيارة رويس رايس في موقف معلق أمامه لوحة "موقف مخصص لشركة الكواكب للإعلان". ترجّل منها ونزل بثوبه الأبيض الناصع وغترته الحمراء الفاقعة، زاد جمال تطريز الثوب السُكري وخياطته طوله الفارع وكتفيه العريضتين. سار إلى الباب الزجاجي الأوتوماتيكي وهو يُقلّب سبحة زرقاء بحركة دائرية في الهواء، فُتح الباب له، فصدمته رائحة حادة فراح يلوّح بيده أمام وجهه لعلّ الهواء ينقل له رائحة العود الذي وضعه بدلًا من رائحة المجاري. توجّه يسارًا حيث المصاعد وضغط على زر السهم المتجه لأعلى، فتح المصعد أبوابه، فدخل، ثم ضغط على رقم واحد، وبينما كان المصعد يُغلق أبوابه تناهى لمسمعه صوت بعيد يُنادي عليه وتراءى لعينيه شبح إنسان يجري إليه، فمال بسرعة وضغط على زرّ السهمين المتنافرين وظلّ ضاغطًا عليه حتى دخل باسل الذي كان يحمل بيده كيسين بلاستيكيين أبيضين للمصعد، قال وهو يلتقط أنفاسه "بشرّنا عنك يا البطراني؟"، قال وهو يَهُزّ أطراف الشماغ المائلة على كتفيه "والله الحمد لله، أنت بشرّني عنك؟"، "تمام"، نظره له قليلًا لكنه لم يُحرك ساكنًا فماله بجسده الضخم عليه وضغط على زر رقم واحد، ورقى المصعد بهما للطابق الأول مصدرًا أزيزًا قويًا، ثم فتح الأبواب من جديد فخرج البطراني يتبعه باسل وراءه، قال له وهو لا يلتفت له "ما شاء الله رحت بالسيارة؟"، "لا والله مشي على رجولي"، "أمم يا أخي أغبطك على نشاطك وحيويّتك"، قال له من بعيد "شكرًا" عبرا الممر الزجاجي، ثمّ انعطف يمينًا، وهو يُكمل تساؤلاته قائلًا "ولكن المرّة ثانية روح سيارة أبرك لك"، قال له صوت بعيد "ما أسوق"، وقف مكانه والتفت له، كان باسل ما يزال في الممر الزجاجي، وقف ينتظره "ما سمعتك؟"، "أقول لك ما أسوق؟"، "معك سائقك؟"، سائق أهلي"، "يا حظك ترتاح من زحمة الرياض أتمنى أجيب لي سائق"، كان باسل يجرّ الخطوات ببطء وهو يحمل الكيسين الثقيلين بيديه الصغيرتين، نظر له البطراني لوهلة ثم همس "على العموم.." والتفت للممر الأيمن.
عند التفاته رأى هشام بطوله الفارع وكرشته الصغيرة ولحيته الكثيفة يقف خارج المكتب ويتبادل أطراف الحديث مع امرأة، قال له "السلام عليكم"، التفت هشام سريعًا لمصدر الصوت "حيّ الله البطراني شو هالمفاجأة الحلوة؟" وترك المرأة وراءه ليستقبله بالأحضان، احتضن الرجلين الضخمين بعضهما، ثم مال البطراني برأسه فمال عقاله معه وهو يهمس بأذن هشام "مين هذه؟"، "عاملة توصيل"، تمزح!"، أبعد وجهه عنه ويديه ما تزال على كتفيه "لا والله". سارا جنبًا إلى جنب للمرأة التي كانت تقف أمام الباب حاملة في يدها كيسًا أخضرًا ورقيًا كبيرًا. أخذ هشام الكيس منها وقال "تمام يعطيك العافية وبتواصل معك إن شاء الله". أغلق البطراني شفتاه بقوة في حين وضع أصبعي الأوسط والسبابة في الفراغ ما بين زريّ الثوب السعودي ووقف هو هشام يتأملان ظلّ الآنسة بعباءتها السوداء الخالية من أي تطريز وطرحتها التي تركتها تنسدل على كتفيها وشعرها البني المنكوش والقصير حتى الأذنين وهي تغادر. وفي الوقت الذي كان فيه طيف الفتاة يزول ظهر لهم طيف باسل وهو يحمل في كلتا يديه كيسًا ثقيلًا، عبرا من جانب بعضهما فذهب طيف الفتاة كحلم جميل وجاء طيف باسل كشبح مخيف. ضرب البطراني بطرف أصابعه على كتف هشام "الله يلعنك.. كيف سويتها؟"، انفجر هشام بالضحك "أيش رأيك"، "أنت مستحيل... لازم أصير زيك.. أبغى أصير زيّك قل لي كيف!". حكّ لحيته وهو يقول "موهبة"، "قل لي الخلطة بسرعة أبغى أشبك البـ...".. "تتكلمون عني؟"، "لا"، رمى الأكياس على الأرض ومال بجسده للأمام "إلا.. إلا تتكلمون عني.. سمعتكم!"، "يا عمي عن شو تحكي"، "تضحكون على مشيتي.. سمعتكم"، "لا"، التقط الأكياس وهو يقول "الله فوق"، وضع أصبعه على جهاز البصمات "ويلكم باسل"، ودفع بجسده الصغير الباب الزجاجي فالباب الخشبي ودخل للمكتب. ظّلا هشام ومحمد البطراني متسمرين في مكانهما لوهلة، وأخيرًا همس محمد "تدري.. أتمنى أصير زيه"، "شو؟ يا حبيبي من لحظة تقول لي كيف أصير زيك أشبّك البنات... معليش لكن مثل باسل صعبة يشبك"، "لا.. لو كنت مكانه كان سويت لي قصة نجاح.. زي ميسي"، "يا عمي ميسي شوي قصير مو.."، "لحظة لحظة والحين ميسي ايش؟ أكبر لاعب في العالم.. لو كنت زي باسل كان صرت ميسي السعودية"، اكتفى هشام بالصمت في حين وضع محمد أصبعه على جهاز البصمات الرمادي، "ويلكم محمد البطراني"، ودخل كليهما لمكتب شركة "الكواكب للإعلان".
بينما كان البطراني يدخل المكتب بهيبة رجل المكان وصاحبه، إلا أن روحه كانت تعيش في عالم آخر لا يعرفه إلا هو حيث هو اليوم رجل قصير وأعرج، ولكنه موهوب وناجح وكل الفتيات يرسلن الهدايا والأزهار له، وبالأمس كان رجل استقبال هندي بسيط يعيش حياة رغيدة عندما يعود للهند بعد عشرين سنة عمل في السعودية، وفي يوم ما تمنّى أنه صاحب سيارة أوست مارتن التي يملكها هاشم حيث يفتح السقف وينظر الجميع نساءً ورجالًا لروعة السيارة وصاحبها.
براءة
توقفت سيارة ألتيما بيضاء عند المواقف السفلية التي كان يقودها شاب ذو لحية سوداء كثيفة وجسم ممتلئ عند منطقة البطن والوركين، وبجانبه أخته التي وضعت يدها على مقبض باب السيارة لتفتحه، باغتها بطلبه "صوري لي مكتبك، تمام؟"، "إن شاء الله"، "مو تصرفيني زي أمس.. أبغى أشوف كيف قسم النساء عندكم"، "تمام.. بأحاول، تعرف كل البنات موجودين ما أقدر أصور"، "حاولي.. وهالله هالله عاد ما أحتاج أوصيك"، همست "إن شاء الله" وفتحت الباب ونزلت من السيارة، واتجهت لمدخل المركز التجاري، التَفَتت، كان أخاها لا يزال ينتظرها في السيارة، أكملت سيرها بعباءتها السوداء وطرحتها السوداء وحذائها الأسود وحقيبتها السوداء وكمامها الأسود ففتح الباب ردفتيه لها، وتفجر أنفها من هول الرائحة. التَفتَت، كان أخاها لا يزال ينتظرها، اتجهت يسارًا حيث المصاعد، التَفتَت.. لم تكن تستطيع أن تراه من هذه الزاوية الضيقة، فافترضت أنه ذهب وأكملت المسير.
كان رجلٌ بشعر بني كستنائي ووشوم زرقاء وخضراء مرسومة على ذراعيه ورقبته يُهاتف شخصًا ما ويمشي أمام المصعد بنمط ثابت، ثلاث خطوات للأمام ثم يلف جسده ويسير ثلاث خطوات وهكذا دواليك وكأنه بندول ثابت السرعة والتسارع. وقفت على مبعدة منه تنتظر المصعد. وصل المصعد، لكن الرجل ثبت في مكانه دون أن يدخل، فتجرأت وسارعت خطواتها ودخلت، وبينما كان المصعد يبدأ في إغلاق أبوابه مدّ الرجل يده اليسرى بين ردفتي الباب حتى يتوقف عن الإغلاق، ودخل للمصعد والتفت لجهة الأزرار حيث كانت تقفُ هي، الزر رقم واحد محوّط باللون الأحمر، مال بجسده فوق جسدها، تسارعت دقات قلبها، والصقت ظهرها أكثر بجدار المصعد المتسخ، وضغط على زر رقم اثنين، ثم أعاد جذعه لمكانه وأكمل دردشته على الهاتف، رقى المصعد الطابق مصدرًا أزيزًا يتسبب في قشعريرة في الجلد، نظرت للأرض لعلها تنسى الصوت، فاشمأزتعندما رأت منديلًا مكورًا على الأرض وعلكة ملتصقة بالبلاط المتسخ عليها أثار حذاء قد داس عليها، فنظرت للأعلى وبدأت تعد ١٠... ٩...٨... ٧... ٦..٥..٤.. وفتح المصعد أبوابه لتخرج منه بسرعة كالمسعورة.
عبرت الممر الزجاجي، ثم اتجهت للممر الأيمن. كانت رائحة الجبس المنتفخ بسبب تسريبات المياه يخنق الممر، ويضع الموظفين والزوّار في حالة هوسيه غير إدراكية وكأنه غاز لا يسيّل الدموع، بل يستنزف الصبر ويُسقط الأقنعة عن الأوجه. إذا كنت في مكان جميل ينبعث منه رائحة العود وبرتقال البرغموت وتجلس على كنبة مملوءة بريش النعام وتتناول طعامك من إناء نظيف فعندها فقط تستطيع أن تتحكم بمشاعرك وأن ترتدي قناعًا حديدًا يخفي هويّتك. ولكن مكاتب الممر الأيمن مخنوقين من هذه الرائحة، ولا يستطيعون لبس الأقنعة في هذا الجو المكتوم.
وصلت لثالث مكتب عن اليسار، وضعت أصبعها على جهاز البصمات، "ويلكم براءة"، فتحت الباب الزجاجي بصعوبة ثم دفعت الباب الخشبي بجسدها، ودخلت للمكتب. كان موظف الاستقبال لم يأتِ بعد، اتجهت للباب المثلّج وفتحته، كانت أغلب المكاتب فارغة، سارت بينها، وفجأة، رأت باسل يجلس على الأرض ويُلملم قطعًا صغيرةً متناثرةً في أرجاء أرضية المكتب وقد كانت بعض هذه القطع قد ابتعدت كثيرًا حتى وصلت لمكاتب الآخرين. وقفت لبرهة، كان جورج مسترخيًا على كرسيه مغمضًا عينيه، نظرت لذلك الجسد الصغير المتقرفص على الأرض وهو يُعاني لالتقاط الدبابيس ووضعها في الكوب، فتحت فمها قليلًا ثم أغلقته، بلعت ريقها ثم تشجّعت وقالت "تحتاج مساعدة؟"، لكنه كان منكفئًا على الدبابيس، تحنحنت وقالت "باسل"، لكنه لم يرفع رأسه لها، فسارت دون أن تنظر له لمكتبها.
وضعت حقيبتها السوداء المستطيلة الكبيرة الخالية من أي لون أو نقش سوى من اسم الماركة بلون أسود مطفي على الأرض. وجلست على كرسيها الذي وضعت عليه وشاحًا تتداخل فيه ألوان الأبيض والأسود، ولكن الأسود يغلب عليه. فتحت دفتر مذكراتها ذا اللون الأزرق الفاتح والرسومات اللطيفة باللون الوردي، وتنقلّت بين الأوراق حتى وصلت لآخر ورقة كتبت عليها. كان مخطوطًا على الورقة "في الصباح استخرجي البيانات التي طلبها باسل وأرسليها له". أغلقت المذكرة، وفتحت جهاز الكمبيوتر، وباشرت عملها. جمّعت البيانات المستخلصة في برنامج أكسل وراحت تُرتبها في مستند جديد، وبينما كانت منهمكة في ترتيب الأرقام وجمعها وطرحها وتقسيمها، ظهرت من على زاوية شاشة جهاز الكمبيوتر رسالة بريدٍ إلكتروني من باسل. فتحت الرسالة، تنقلّ بؤبؤ عينيها بين الأسطر بسرعة، شعرت بماء بارد ينسكب على رأسها وينحدر لقلبها فيجرفه ويِرديه لقاع بطنها. التقطت قارورة مياه من على مكتبها، وشربت منها. عادت لتقرأ البريد الإلكتروني وضربات قلبها مضطربة وكأنها كرة مطاطية تقفز في الغرفة بهواجة.
وبينما كانت تُعيد قراءة البريد الإلكتروني لثالث مرة وهي لا تزال تستهجن بينها وبين نفسها تلك النبرة القاسية والمنذرة التي استعملها باسل، اقترب منها العامل ناقم وهو يحمل صينية حديدية عليها كوب أبيض يتصاعد منه الأبخرة. قال لها وهو ينزل الكوب على مكتبها "قود مورنينج"، ابتسمت له بخفة وقالت "مورنينج، شكرًا"، "عفوًا" ثم ذهب ليعود لمكتب الاستقبال، ولكنه توقف والتفت لها وأشار على حقيبتها الموضوعة على الأرض "ما شاء الله شنطتك حلوة"، ابتسمت "شكرًا"، "بكم؟"، أءء مدري نسيت من زمان شريتها"، "عشانها مرة حلوة.. زوجتي ما عندها شنطة أنا أبغى اشتري لها شنطة زي شنطتك... مين وين شريتيها؟"، "أءء من موقع"، "أووه هذا الإنترنت كله غالي.. أنت فلوسك كثيرة أنا بس شويه"، عادت بنظرها لشاشة الكمبيوتر وهمست "أمم"، ولكنه لم يفهم أنها تريد إنهاء الحديث فأكمل شكواه "اليوم بروح لفهيم.. بطلب زيادة أنا مسكين بس ١٥٠٠ ريال راتب.. أنت سعودي فلوس كثير أنا قليل"، "إن شاء الله تجيك زيادة"، رفع يديه عاليًا وقال مبتسمًا وهو ينظر للسقف "الله كريم" ثم التفت وتركها وراءه.
حاولت أن تستعيد توازنها وأن تصب تركيزها على جدول الإكسل المليء بالأرقام والمعادلات حتى تنهيه في أقرب وقت وتُسلمه في رسالة مُذللة باعتذار. وبينما كانت تضرب الأرقام وتجمعها وتطرحها تناهي لمسمعها تصبيحة تعرفها جيدًا، "بونجور"، ازدادت ضيقتها، وحاولت أن تدسّ رأسها في لوحة المفاتيح وخلف الشاشة حتى لا يراها عندما يمرّ من أمام مكتبها، ولكن ما إن سمعت "بونجور" قريبة منها حتى استوعبت أن هذه الفكرة سخيفة تمامًا مثل طفل يلعب الغميمة فيُغلق عينيه حتى لا يراه أحد. رفعت رأسها قليلًا مع الحفاظ على عينيها مُركزة على الشاشة لتُظهر مدى تركيزها. وقف أمامها بصلعته اللامعة وأرنبة أنفه المرتفعة وصبّح بصوت عالٍ وحادّ "بونجور يا حلوة"، ابتسمت له، حاولت أن تُحرّك لسانها، أن تقول شيئًا، ولكنه انعقد عقدة مُحال فكها، مال بجسده للأمام قليلًا بينما أبقى رأسه مرفوعًا للأعلى وقال "شو بك مستحية؟"، استمرت في صمتها، ولكنها هذه المرة استطاعت أن تُحرّك عضلات خديها لتبتسم ابتسامة باهتة، عاد بجذعه للوراء ورفع يده اليمني وأشار بها لتتبعه "تعي تعي على المكتب"، ثم أكمل سيره.
وقفت من على كرسيها، ثم مسحت جذعها وجزء من بطنها بباطن كفيها وكأنها تتلو على نفسها تعويذة ما، واتجهت لمكتب.
كان باب مكتبه الزجاجي مفتوحًا، ترددت للحظة ثم دخلت، تأملت الكنبة الجلد السوداء الموضوعة عن يمين الباب والكرسيين الأصفرين الموضوعين أمام المكتب الخشبي، تسمرت مكانها لا تعرف أين تجلس، على الكنبة حيث تصبح المسافة بعيدة فتبرد حرارة الكلمات عندما تصلُّ لها، أم تجلس على أحد الكرسيين لتحاول ردعه. "تفضلي"، عند سماعها لهذه الكلمة، اختارت البُعد. تصاعدت دقات قلبها عندما جلس على كرسيه الأسود الدوّار وأخذ يُقلب في هاتفه لدقائق بينما يستنشق دخان سيجارته، شدّت عباءتها على جسدها لعلها تمنع وصول ذرّات الدخان لها. وبعد دقائق، نظر لها، وقال: "كيفيك؟"
قالت: الحمدالله، كيفك أنت؟. وشعرت بصدى الكلمات في رأسها " الحمدالله، كيفك أنت؟"
- منيح... أءء شو مزعلك؟
- ولا شيء. (مرة أخرى تردد صدى الكلام المرتجف في عقلها)
- بجد؟! لا.. اسمعي اسمعي.. هون ما بنستحي ههه تمام؟ احكي شو عندك.
لم تُركز على ما قاله، فقد شعرت أن روحها خرجت من جسدها، ارتفعت عاليًا، ونظرت لصلعة فهيم البيضاء والمشربة بحمرة والمتصاعد منها دخان، ولجسدها الضئيل الضائع في وسط الكنبة السوداء. من أعلى لم تكن موجودة، بل مندمجة مع الجلد الأسود بمثالية تامّة. عادت مجددًا لجسدها، تلعثمت، ثم قالت: هه والله كل شي تمام.
- متأكدة؟
نظرت لعينيه المختبئتين وراء النظارة والبعيدتين عنها: متأكدة.
- بدك شي ولا شي؟
- سلامتك
- الله يسلمك.
حاولت أن ترفع جسدها عن الكنبة، ولكن الجلد الأسود تمسك بها، وضعت باطن كفها على مسند الكنبة، واتكأت عليه، وزفرت نفسًا طويلًا وهي تسحب أجزاء روحها من هذه البقعة السوداء، وأخيرًا استطاعت الوقوف. بهدوء سارت، سعيدة بانتهاء اللقاء، ولكن قلبها سقط من مكانه عندما سمعته يُناديها "براءة؟ معليش تأفلي الباب؟"، هدأت نفسها قليلًا، وأغلقت الباب بابتسامة.
كحرباء، جلست على كرسيها الأسود، واختفت. عادت لجدول الأكسل، تبقى القليل فقط، أسطر هنا وهناك وستنتهي المهمة لتُرسلها باسل. شهيق.. زفير.. تناولت قارورة الماء وشربت منها. ثم نظرت مطولًا للشاشة وأمسكت بالفأرة وباشرت العمل. أضاء جوالها فتناولته وقرأت الرسالة، التفتت حولها، الجميع جالسون على مكاتبهم، وضعته على الطاولة وعاودت العمل. انتهت من جميع الأعمدة والصفوف، كل ما عليها الآن هو التأكد من أن عملها لا يشوبه شائبة.. سواد حالك حلّ بعينيها عندما سمعت فهيم الذي خرج من مكتبه لتوه يقول "براءة! مو باين إنك جالسة على الكرسي.. كأن الكرسي ما عليه أحد". ذهب.. لبضع ثواني في مكتب مدير قسم المالية.. ومرّ من أمامها من جديد... فتوارت أكثر في السواد... وتبعه هشام لمكتبه وأغلق الباب.. فعادت الرؤية لها تدريجيًا.
أمامها سبعة أعمدة وسبعة أصفف لتتأكد من جميع قيمها. ضغطت على أسنانها عندما سمعت الشرهان يشرب القهوة بصوت عالٍ، كان يشفط القهوة من الكوب لفمه وكأنه سيفونًا يُخرج الماء في المرحاض، هزت رأسها قليلًا ثم تأملت الصف الأول.. هاجمتها "تسووو" أخرى، فتوقفت. أضيء هاتفها من جديد.. رفعته وقرأت الرسالة، ثم التفت للمكتب.. كانا جورج وباسل قد غادرا مكتبيهما، فتحت محادثة الواتس آب، ثم فتحت الكاميرا والتفت بجسدها لليسار قليلًا حيث مكتبيهما، والتقطت صورة خالية من أي موظف، وارسلتها. عمّ الصمت المكان سوى من بعض النقاشات البعيدة في مكتب الشرهان.. فعاودت النظر للصف الأول.. اهتز هاتفها وأضيء.. رفعته وقرأت الرسالة ثم أعادته.
أكملت تأمل الأرقام الموضوعة بعناية داخل كل مربع... الصفّ الأول انتهى. غطّ ستارٌ أسود قاتم عينيها، فقد خرج فهيم من مكتبه يصرخ بشيء ما، لا يمكننها الاختباء الآن، سمعت الشرهان يرد عليه.. وفهيم يسخر.. اختفت الأصوات.. فرُفع الستار عنها تدريجيًا.
انتقلت بعينيها للصفّ الثاني، ولكن باغتتها قشعريرة مفاجأة، وبفراسة أثنى التفت يسارًا، كانت عينيه الصغيرتين تفترسانها. مررت أصابعها حول حلقة حجابها الملفوف حول رأسها.. نظرت من طرف عينيها يسارًا... لا يزال ينظر لها. بارتباك، رفعت طرحتها السوداء عن رأسها وامسكتها بيديها ورفعتها قليلًا للأعلى ثم أعادتها على رأسها ولفتها بقوّة حول وجهها، نظرت يسارًا.. مرتبكة، فحال بنظرته عنها وبحلق في السقف. عادت بنظرها لشاشة الكمبيوتر.. وأمسكت بالفأرة وحاولت أن تُركز في عملها... رأته يخرج من المكتب ويسير من أمامها دون أن يلتفت، فتنفست الصعداء.
هدأت نفسها قليلًا... وعادت لعملها... مررت نظرها بين الأعمدة والفوف السبعة... كل رقم في مكانه الصحيح... كل معادلة تبدو أنها صحيحة.. ولكن شكل الأرقام مزعج... فبين القيم النهائية تنافر عجيب... أعادت مراجعة الأرقام... كلها صحيحة... أغلقت الملف المثير للاشمئزاز بسرعة.. وكتبت رسالة بريد إلكتروني مذللة باعتذار.. وأرفقت الملف.. وارسلته.
الغداء
خرج فهيم يتبعه الشرهان من المكتب، وقف أمام مكتب براءة واضعًا يديه على خصره وهو يقول "شو ما بدّك تأكلين معنا يا حلوة؟"، "أءء لا شكرًا"، هزّ رأسه يمنا ويسارًا "تعيّ"، "ايش؟"، ألت تعيّ... شو يعني بناكلك؟"، ضحك الشرهان وهو يمسح لحيته الشقراء، وهمست "تمام". مالت للأرض، امسكت بحقيبتها وأخرجت منها ساندويتش من التوست البرّ موضوعًا داخل كيسًا من النايلون، أمسكته بين يدها، وسارت إليه بملامح صامتة. ساروا لغرفة الاجتماعات الكبرى.. فهيم رافعًا رأسه للأعلى، والشرهان ماطًا قميصه عن بطنه، وبراءة ضامّة الساندويتش لصدرها. توقف فهيم أمام جورج الجالس على الكرسي الأصفر، فتوقف الجميع. مال بجسده وهو يضع أطراف أصابعه في جيب بنطاله الجينز "ما بدّك تأكل معنا؟"، "إلا إلا بس امسك يدي إذا ممكن"، مدّ يده له فمسكها وشده للأعلى حتى يقف، ضحك وهو يمسح على ظهره "بتعرف شو؟ لازم لك رياضة"، "ههه خليني أول أمشي زي الأوادم ثم يصير خير"، أعاد نظارته الدائرية بأصبعه الأوسط وهو ينظر للسقف ويقول "بتعرف شو مشكلتنا نحنّا يا العرب؟"، "ايش؟"، "ما تربينا على الرياضة.. الأوربيين من صغرهم بيمارسوا الرياضة، واحنا بتعرف شو؟ احنا تربينا ننسدح قدام التلفزيون". أكمل الأربعة مسيرهم حتى غرفة الاجتماعات، فهيم، ثم الشرهان، فجورج، وأخيرًا براءة.
دخل فهيم الغرفة ووقف للحظة، فوقف الجميع من خلفة وكأنه بطة أم وهم صغارها. فتح يديه في هواء وقال "أهلًا وسهلًا! شو هالمفاجأة"، وسارع الخطوات للبطراني الذي وقف بطوله الفارع مبتسمًا وفاتحًا يديه إليه، نزل بجسده كثيرًا ليحضنه ويقبله، وبعد مجاملات طويلة وغثيثة، نظر لوجهه طويلًا وقال "ما شاء الله وش هالبشرة والخدود الحمراء.. ياخي ليت بشرتي زي بشرتك"، ضحك وقال "تعرف شو مشكلتك؟ ما تأكل فواكه كثير كل أكلك مقالي"، ثم التفت للطاولة وأشار للكيس الأخضر الذي فتحه العامل ناقم وأخذ يُخرج منه علب السلطات والملاعق والشوك، "شوف أنا شو آكل"، والتفت للجهة اليسرى هذه المرة وأشار على باسل الذي كان يجلس في زاوية الطاولة الكبيرة وحيدًا وهو يأكل الشاورما بنهم، ثم قال "وشوف أنتوا شو بتاكلوا". توقف باسل عن الأكل، وقف سريعًا واللقمة ما تزال في فمه، وأخذ الساندويتش ورماها لتضرب في منتصف صلعة فهيم ثم تقع على الأرض. لم يستطع جميع من في الغرفة، البطراني الواقف بجانبه، ولا هشام الجالس على الكرسي، ولا ناقم الذي كان يجهز السفرة وقد مال بجسده قليلًا عندما رأى الساندويتش تطير في الهواء، ولا جورج والشرهان وبراءة الذين وقفوا محملقين، أن يستبعوا ما حدث ولماذا حدث.
صرخ باسل ورذاذ اللعاب وقطع الطعام الصغيرة تخرج من فمه "عيد كلامك!"، احمرّ وجه فهيم وصلعته وقال بشيء من الغيظ "مين أنت مشان أعيد له الكلام". عمّ الصمت المكان، الجميع متسمّر في مكانه، إلا الشرهان الذي همس "والله أنا جوعان" وجلس على أقرب كرسي وفتح علبة السلطة وتناول شوكة ثم أخذ العلبة الصغيرة للصلصة وسكبها عليها وأخذ يأكل دون أن يُعيرهم اهتمام بالغ. سار باسل بخطواته المتعثرة وهو يقول "والله لأوريك"، التفتت براءة لجورج وطلبته "تكفى وقفه!"، قال "خليه.. دايم متحمس.. وما فيني حيل أوقفه هو يبي ينضرب". وبينما كان يسير ببطء من أقصى الجهة اليسرى للطاولة إلى اليمنى حتى يلكم فهيم، قال له ناقم "يا حظك أنت تتكلّم وقادح يا ليتني مثلك"، فاتسعت خطواته أكثر وهو يتجه لخصمه وما إن اقترب أمامه حتى وجه فهيم له لكمة بقبضة يده طيّرت سنًا له في الهواء وأردته طريحًا على الأرض. نظرت براءة لجورج "يا حرام ساعده وقوّمه"، "معليك بيقوم لحاله"، ولكنه كان يُعاني من دوار شديد ونزيف قوي من فمه. صامتًا، وقف لوحده بصعوبة، وجرّ قدمه بخيبة لباب الغرفة حيث وقف وقال "والله لأوريكم كلكم"، فضحك فهيم "تمام تعال ورّنا"، وخرج صامتًا يجرّ قدمه ورائه.
كان صدره يصعد ويهبط بسرعة، جلس على الكرسي وتناول علبة السلطة وفتحها وأمسك بالشوكة، ثم نظر إليهم وقال "سمّوا ابدأوا كلوا.. وأنت يا البطراني شارك الشرهان السلطة كبيرة عليه معاه أكل ثانـ.."، قاطعه الشرهان بفم مملوء بالطعام "آسف والله بس قليل أكلي"، فالتف للبطراني ووضع العلبة بينهما وقال "شاركني أنا.. هذا ما بيفهم"، ثم نظر لبراءة وجورج وقال "على شو بتتفرجوا؟ يلا اجلسوا وكلوا وأنت ناقم كمان جيب أكلك واجلس معنا" فجلس جورج على أقرب كرسي له وطلب الشرهان قائلا "بالله ما فيني حيل أجيب أكلي عطني إياه"، "الله يعيني يا شيخ" ومال الشرهان بجسده ويده ومسك الكيس البلاستيكي بأطراف أصابعه وسحبه على الطاولة حتى أعطاه جورج الذي أخرج منه ساندويتش وبدأ بأكله. خرج ناقم من الغرفة سريعًا، وعاد ليجلس على كرسي بجانب فهيم وجورج. في حين تسمّرت براءة في مكانها، فلم يبقَ لها سوى كرسيٍ واحد بجانب هشام. تحرّكت ببطء وسحبت الكرسي للخلف قليلًا وجلست عليه، التفت لها هشام "يا مرحبا ببراءة"، همست وهي تخرج ساندويتشها من كيس النايلون "شكرًا"، "قرّبي كرسيك أكثر.. شو مستحية؟"، "لا" وقرّبته أكثر للطاولة ولكرسيّه. أخذت قضمه من الساندويتش، وبدأت تعلكه بين أسنانه وهي لا تشعر بأي طعم، ثم اللقمة الثانية وتحرّك فمها ثم تبلعها.
كان الجميع جالس على الطاولة. ثمانية كراسي حوّل الطاولة عليها سبعة أشخاص. الشرهان الذي انتهي من السلطة وساندويشته الأولى وهو في نهاية الثانية، وجورج الذي يقضم الساندويتش الأول ببطء، وناقم الذي يأكل رز برياني مليء بالبهارات بيديه، وفهيم الذي يضع قطعة خس صغيره في الشوكة ويدسها في فمه ثم يغطي أنفه بمنديل من رائحة ناقم وطعامه، والبطراني الذي شارك في أكل السلطة وهو غارق في أحلامه، وأما هشام فكان يمسح لحيته الكثيرة ويبتسم كثيرًا دون سبب واضح. قطع فهيم الصمت وهو يقول بصوت مكتوم خلف المنديل "تعرفوا شو مشكلة باسل؟"، نظر الجميع إليه، أكمل "أنه ما يتعالج نفسيًا، قلت لك أكثر من مرة باسل يا حبيبي روح الطبيب النفسي. عندنا هون بالوطن العربي المشاكل النفسية عار، بس بأوروبا لا. احنا لازم نتغيّر وفورًا". وعاد الصمت للغرفة. تسمّرت براءة في مكانها، شيء ما يتحرك على قدمها، أنزلت نظرها للأسفل، ثم رفعت رأسها من جديد. كان يمسح لحيته البنية وعلى وجهه ابتسامة عريضة. تسارعت دقات قلبها، وقررت الوقوف وما إن سحبت روحها من هذا الكرسي الأسود حتى وضع ساقه فوق ساقها وقال "تؤتؤتؤ"، فجلست بجسد دون روح.
رمى الشرهان قرطاس آخر ساندويتش له على الطاولة، ثم التفت لجورج الذي كان لا يزال يأكل أول ساندويتش "جورج، روح عند باسل وشوفه"، "ياخي والله ما فيني حيل"، "حرام عليك، أنت أقرب واحد له"، "الصدق مالي خلق أقوم، إذا جاء لي خلق أبشر". كان ناقم قد أنهى طعامه لتوّه، فالتفت لفهيم وقال "سير، عندي طلب"، قال الشرهان "لا يا ناقم مو الحين"، "إلا الحين. سير، أنا أبغى زيادة"، وضع فهيم يده فوق المنديل وضحك ضحكة قصيرة وقال "ما في زيادة"، "ليش؟ أنت فلوس كثير عندك سيارة غالية كلكم! كلكم عندكم فلوس وبيت وملابس وأنتوا كلكم تطلبون من المطعم بس أنا ما أقدر أنا أكل بس من البيت عشاني مسكين وأنتم عدكم فلوس كثير". قال له البطراني وهو يُعدّل غترته "يا ناقم يا ناقم. هذه الشركة لي أنا صح؟ بس تدري أتمنى أصير زيك هندي مسكين. تدري ليش؟ لأنك مسكين هنا في السعودية بس عندك فلوس كثيرة في الهند. يا ليتيني بدالك، تدري وش أسوي يا ناقم لو كنت مكانك؟ أجمع فلوس كثير وأصير تاجر حتى أغنى تاجر في الهند"، "والله كذّاب.. أنا أبغى فلوسك يا البطراني أنا أبغى. والله أنا كل يوم أشوف ملابسكم ساعاتكم أقول يا ربي ليت هذه الساعة عندي ولّا هذه السيارة لي. والله يا البطراني أنت تقول كذا بس الصدق...".
دخل باسل في الغرفة، كان يحمل بيده اليمنى الضعيفة والمرتعشة علبة مياه خمسة لتر مملوءة بسائل شفاف يميل للصفرة، ويحمل بيده اليسرى قدّاحة. صرخت مستنجدة عندما رأته "باسل!"، وقفت، والتفت الجميع لما تنظر إليه فوقوا عن كراسيهم، أما هشام فأحاطها بذراعيه وهمس "لا تخافي"، فغرقت في البكاء. صرخ فهيم وهو يضع المنديل فوق أنفه "يا حمار، والله إنك مريض وما تفهم! ارمي اللي في يدك"، ولكن لم يستمع له ورفع ببساطه علبة الماء ونثر جزءًا منها على وجه فهيم، وقد ساعدته يده المرتعشة في ذلك. نزل ناقم بجسده خلف الطاولة وبدأ يصرخ "أنا مسكين كلكم عشتوا حياتكم إلا أنا كلكم عندكم فلوس... باسل لا تقتلني"، في حين وضع فهيم يديه على وجهه وبدأ يصرخ. استنجد البطراني باسل وهو يمدّ يديه أمامه "باسل، تكفى يا باسل والله إن حياتك حلوة وإنك تستطيع إنك تخلي هذا الموقف قصة نجاح والله أتمنى أصير مكانك"، ولكن لم يسمع له وسكب البنزين عليه. صرخ الشرهان صرخة مدوية "تكفى لا.. تكفى لا والله ما عشت حياتي باقي.. تكفى"، ولكنه لم يسمع له، بل أخذ يسكب البنزين من الباب في وجيههم وأمام الباب وعلى الطاولة وفي كل زاوية من غرفة الاجتماعات. استصرخت براءة من بين يدي هشام "باسل أنا وش ذنبي قل لي أنا وش ذنبي". في حين تمسك هشام في جسدها أكثر وأكثر. وغرق جورج في صمت مفجع وعينيه مفتوحتان تُبحلقان فيه وهو ينثر البنزين على الجميع الذي كان ينسكب على جسده أيضًا. أشعل القدّاحة، وما إن أشعلها حتى انتشرت النيران في جسده، فصرخ صرخة جاءت من أقصى أعماق روحه، ورمى القداحة على الأرض، فانتشرت النيران، وامتزجت الصرخات، احترق باسل أولًا الذي راح يصرخ بنيرانه داخل الغرفة مما عجّل من اشتعال البقية، اشتعل هشام وبراءه في الوقت ذاته وبقي متمسكاً فيها حتى تفحما، وانتشرت النيران في الطاولة فسقطت على ناقم واردته قتيلًا، واشتعل وجه فهيم ولكنه بقى يصرخ "يا مريض" حتى ذابت عضلاته ولم يقوى على الكلام، وانتشر النار بسرعة في ثياب البطراني الذي حاول أن يحسر باسل "والله حياتك حلوة"، ومات جورج بنيرانه دون أن يصرخ أو يتحرّك، في حين أن آخر من مات من الزملاء كان هشام الذي عانى من موت بطيء بسبب طبقات الشحوم المتراكمة على جسده. احترق الزملاء السبعة والمرأة الوحيدة حتى الموت على الغداء الأخير.
تعليقات
إرسال تعليق