ماذا يعني لك عشاء على ضوء الشموع؟
ماذا يعني لك عشاء على ضوء الشموع؟
كانت تجلس في طاولة منزوية في آخر مطعم فاخر في
مبنى يُشبه القلعة؛ تطّل جميع نوافذه على فناء داخلي تتوسطه نافورة ويجري الماء في
معابر مائية في أنحاء الفناء المزروع بالعشب الأخضر وشجر السدو. صُفّت عشر طاولات
فقط في الفناء، تحت عناقيد من الأضواء الممتدة بين جدران المبنى. وزُينت الطاولات
بمفارش بيضاء تُغطى منتصف الطاولة فقط، وعليها شمعه صغيرة في الوسط. عشاء على ضوء
الشموع كل يوم سبت، هكذا اتفقت ماريا وسامر ضمنيًا. لم يحتاجا إلى توقيع اتفاقية،
ولا حتى الاتفاق على الميعاد شفهيًا. مصادفة واحدة كانت تكفي. كانت هي برفقة أختها
وهو برفقة أصدقائه، تبادلا نظرات طويلة، ينظر هو تارة فتُنزل رأسها، ثم تبدأ هي
بتأمل تلك الملامح الباردة والهالات السوداء. أخيرًا تجرّأ، فتوجه لطاولتهما وسلّم
عليهما وقال: أنتما ماريا وسلمى صح؟، ضحكتا باصطناع وقالتا: نعم! وأنت سامر؟! كانت
محادثة بسيطة، تبادلا فيها الأحوال والأخبار سريعًا، ولم يحتاجا إلى تبادل كلمات
أكثر، ولا إمضاء وقت أطول، حتى تشتعل قلوبها بلهيب الماضي.
كم عشاء أمضياه؟ أضاعت هي العد بعد العشرة، وهو
في المقابل لم يعدها أبدًا. كانت تذهب كل سبت بقلب خائف، ولكنها حالما تعود إلى
المنزل تعرف أن هذه المغامرة الصغيرة والبريئة تستحق كل هذه الجراءة. سبت واحد
يكفي بأن يُنير بقية أيام الأسبوع، وسبتٌ واحد يتحدث هو فيه عن الاقتصاد ومشاريع
رؤية ٢٠٣٠، وتتحدث هي عن المجتمع والنساء وشيء من المواضيع التي تنوي الكتابة
عنها، كان كافيًا لإشعال فتيل الحياة لبقية أيام الأسبوع. عشاء بريء، تحت الأضواء،
وسط الشموع، وبين نوافير الماء على وشك أن ينتهي.
جلست ماريّا في ذلك السبت، وهي تمسح يدها من
التوتر، ليس من خوف رؤية أخوها أو عين قريب لها هذه المرة، بل لأنها تنوي إيقاف
هذه البراءة المزيفة. ستسأله، جزمت أمرها ولا عودة في قرارها، ستقول له بصريح
العبارة "ماذا يعني لك عشاء السبت؟ أتوقظ الشموع شعور ما في قلبك؟ وتلتهب
أذناك عندما تنظر إلي؟". نظرت حولها، صديقتين تتشاركان سلطة ويتحدثان عن زوج
إحداهنّ تجلسان في الطاولة أمامها، وزوجان يبدو أنهما حديثي عهد بالزواج يجلسان في
طاولة أخيرة. يتقدّم لها نادل آسيوي بلباس أبيض أنيق، ويسألها بلطافة: مدام دو يو
وانت تو أوردور؟
تهز رأسها بلطافة: نوت يت.
تلحظ للمرّة الأولى صوت البيانو في الخلفية، كانت
تظن أن المطعم لا يُشغّل الموسيقى. تُعيدها هذه النغمات إلى منزل سامر، إلى صالة
منزل آل جمعة حيث يقبع البيانو المهجور تحت الدرج، فلا أحد من آل جمعة يعرف كيف
يعزف البيانو. كان منزلًا واسعًا، يُحيطه فناء كبير مليء بالأشجار العالية، ولكن
شجرتهما المفضلة كانت شجرة البونسيانا، حيث كانا يجلسان تحت كل عصر، يمسك هو
موسوعة علمية ضخمة بين يديه، وتقرأ هي قصة عن أميرة مفقودة. كانت أوقات شجرة
البونسيانا تشبه كثيرًا عشاء السبت، مجدولة دون اتفاق مسبق، حلوة، وقصيرة، وبريئة.
كانت عصرية كباقي العصريات، مشمسة، ويفيئان فيها
تحت أغصان الشجرة الوارفة وهما يقرئان تارة، ويتحدثان عن أحداث المنزل تارة. ولكن كان
في الأجواء كهرباء، طاقة، أو شعور، لا يعرفان ما هو، ولكنهما شعرا به. جاءت والدته
من بعيد، بوجه شاحب، وعينين حمراوين، سارت بصمت إليهما وهي تعصر منديلًا في يدها
اليمنى. أنزلا الكتب على حضنيهما، وانتظراها، جلست بينهما والتفتت لسامر، حوطته
بيدها، وقالت شيئًا، لم يعد يتذكران الكلمات تمامًا، ولكن المحصّلة كانت أنه أصبح
يتيمًا. انفجر باكيًا، كانت تلك هي المرة الأولى والأخيرة التي تراه فيها يبكي.
ارتعشت من تلك الذكرى، اعتدلت في جلستها، وأمسكت
طرحتها ورفعتها لفوق عاليًا ثم أعادتها على رأسها. أخذت تتأمل الوجوه، هناك في
أوّل المطعم، تجلس أم وابنتيها، يتبادلنّ أطراف الحديث، يضحكنّ، وتمسح الأم بيدها
على ظهر الابنة الصغرى. لا تعلم متى قررت أمها الرحيل. كل ما تتذكره أنها استيقظت
هي وأختها ذات يوم ولم يجداها دون أي تبرير. يتذمر الكثير من الأبناء من خصامات
الوالدين، ومن الأصوات العالية، والجدالات العقيمة، ولكنها كانت تتمنى أن تسمع تلك
الأصوات والجدالات حتى تقتنع تمامًا أن سبب رحيلها كان وجيهًا. لم تُخبر أحدًا أن
أمها تركتها، مارست حياتها كما هي، تستيقظ صباحًا حيث تُجهّز لها الخادمة الفطور،
وتذهب للمدرسة، وتعود ظهرًا حيث يكون الغداء جاهز، وفي العصر يكون وقت شجرة
البونسيانا.
قطع حبل ذكرياتها النادل الآسيوي وهو يتقدم لها
بابتسامة المغتاظ: مدام، ريدي تو أوردر، "سوري نو". تناولت هاتفها،
وبعثت له في الواتس أب صورة تعبيرية واحدة وهي العينين التي ينظر بؤبؤها باتجاه
واحد. لم يصلها رد مباشر منه، فعرفت أنه يقود السيارة. وضعت الهاتف على الطاولة.
وأخذت نفس عميقًا، تشعر بدقات قلبها تتسارع. ماذا عساه أن يقول حول هذه العلاقة
التي يكتنفها الغموض. ماذا لو قال أنتِ مثل أختي لميس. هل ستتوقف عن مقابلته؟ شاحت
بنظرها بعيدًا. نظرت للأضواء المعلّقة في السماء وهمست "مستحيل". وأحنت
رأسها بسرعة خجلًا من ذكرى داعبتها.
كانا مراهقين، بدأت ملامح الأنثوية تنمو في
جسدها، ثديين صغيرين كالبرتقال، وزيادة في وزن الأرداف، كانت في الماضي تجلس وهي
تُميل ساقيّها لجهة واحدة فلا تخجل، ولكن ردفيها الآن يُشعرانها بالخجل. فأخذت
تتربع في الأرضية العشبية في محاولة يائسة لإخفاء جسدها الفتي. أما هو فأخذ وجهه
يصغر، وأنفه يكبر، وطوله يزداد كل يوم. كانت تقرأ كتاب حياة في الإدارة بعد
أن أعاره لها. سألها: "وين وصلتي؟"، "ما بأقول لك". قفز في
غفلة منها، ووضع رأسه على كتفها الأيمن، وحوّط خصرها بيديه ليُثبت الكتاب...
"أمم لم يُعيّن وزيرًا بعد." رفع عينيه لها... صمت.. حرارة.. من الأرض..
وقلبيهما.. وأسفل بطنيهما... أبعد عينيه بسرعة.. والتفت هي للجهة الأخرى.. انتظرت
لعدة ثوان لعل الحرارة تنخفض.. لعل قلبها يصعد لصدرها.. ولكن الحرارة تزداد والصمت
يطول.. فوقفت سريعًا وتركته ولم يلحق هو بها.
لم تعد للشحرة أبدًا، شعرت أنه لم يُعد ذلك
الطفل، ولم تعرف ماذا سيكون موقفها لو عادت، وخافت.. منه ومن كلام الناس وأخوها.
كانت لقاءاتهما عابرة بعد ذلك، مرة رأته في
الشارع، ومرة اجتمعا في عيد ميلاد لميس، فسألها "أين توقفتي في كتاب حياة في
الإدارة؟"، "أنهيته... نسيت أن أعيده لك"، "لا عادي خذي
راحتك". تلك الجمل الثلاث، سرقت قلبهما، فجرت أجواء الحفلة بكهرباء الحب،
وأنزلت على قلبيهما شيئًا من السكينة.
تجرأت في اليوم التالي أن تُعيد الكتاب له. وقفت
عند الباب وقد طلبت من لميس أن ينزل سامر بنفس. ناولته الكتاب، شكرها والتفت
ليذهب، ولكنها قالت بشيء من الحياء "عــ .. عندي طلب"، التفت وهو يزم
شفتيه "سمّي!"، "كتبت قصة و.."، "واااو أريني ما كتبتي
بسرعة!". أخرجت الورقتين المطويتين أربع طويات من جيب بنطالها وهي تقول
"قول الصدق.."، سحب الورقة منها بحماس وجلس على كرسي أزرق موضوع بجانب
المدخل وفتح طيات الورقة بحماس، أخذ يقرأ بانهماك، بسرعة، بابتسامة عريضة، وبؤبؤ
عينيه يتحرّك يمينًا ويسارًا بين السطور، أنهى الورقة الأولى فالثانية، أنزل
الورقتين، ووقف بحماس وصرخ "مبدددددعة! مبدعة يا ماريا!"
وهكذا أصبحت بعد المغرب، في أيام عشوائية، كل ما
كَتبت نصًا يستحق أن تريه إياه، تذهب لمنزله، تطرق الباب وتعطيه. تارة يعجبه النص،
تارة ينصحها بتغيير جملة، ومرة يقرأ القصة أكثر من مرة لينتهي قائلًا "أسف لم
أفهمها". هكذا قضت مراهقتها بين ابتكار الشخصيات وابتداع الحبكات وكتابة
الحكايات وزيارة سامر ليُقيمها. أصبحت فيما بعد، تعطي صديقاتها في المدرسة قصصها
الرومانسية، فتتبادل الطالبات أوراق قصصها أثناء الحصة، منبهرات بجمال الشباب فيها
وكبرياء البنات وتعقّد الأحداث. وفي أحد المرات، وقعت أوراق قصة بين يدي الأستاذة
فضّة معلمة مادة الدين ذات الصوت السليط واليد البطشاء. أخذت القصة من الطالبة
وأخذت تقرأها بصوت عالي وبنبرة مُتهكمة "ينظر خالد لسارة... يقول تراني
أحبـك..."، تمسك الأوراق بيد واحدة وترفعها للأعلى "مين كتبت
هالسماجة؟"، تكتم الطالبات ضكحهن، يسود الصمت، "قلت لكم مين
كتبها!"، يدق قلبها، تقف بتردد كبير "أنا". تأمرها أن تأتي إلى
السبورة وأن تقرأ القصة بصوتٍ عالٍ، وأخذت المعملة فضّة تسخر من كل موقف بكلمات
لاذعة "لا والله.. خيالك واسع... ليتك استعملتي قلمك فيما يرضي الله.. لحظة
مين خالد... سواق الباص!! ما تستحين، عيب!". وعادت ماريا أخيرًا لمقعدها بعد
أن قرأت الجملة الأخيرة من القصة فضحكت الطالبات بصوت عالي.
هجرت الكتابة... ولقاء بعد المغرب.. وسامر... وكل
ما يرتبط بالكتب. طوّت تلك الصفحة من حياتها... دخلت الثانوية، وتخصصت في القسم
العلمي، أخذت تجمع الأرقام وتقسمها بدلًا من رفع المبتدأ وجرّ المضاف إليه. وعندما
قارب تخرجها من الثانوي من أوانه أسرّت للميس أنها ستدرس إدارة الأعمال قائلة لها
"له مستقبل والأهم فلوس".
وفي ليلة ربيعية قمراء، كانت مستلقية على سريرها،
مكتفية بإضاءة الأباجورات بجانبي السرير وهواء الرياض المعتدل، تتُابع مسلسل
"ديكستر" على لابتوبها. سمعت صوتًا، أسرّت في نفسها خيفة، وركزت على
ديكستر وهو يُراقب ضحيته قادمة، ثم تناهى لمسمعها صوتٌ يُنادي اسمها من النافذة،
خافت وتظاهرت بالجرأة وهي تصرخ "مييين؟!، "أنا سامر". تجمدت
أطرافها، وازرّق فمها، أوقفت المسلسل، ورفعت الفراش عنها، واتجهت للنافذة. كان
يجلس على جدار الفناء الضيق، ابتسم لها وقال "كيفك؟"، "وش صار؟
أفزعتني"، "ولا شيء، كل شيء بخير"، صمتا، "فقط.. قالت لي لميس
أنك تريدين أن تتخصصي في إدارة الأعمال.. أنا أيضًا سأتخصص فيه.. صدقًا سأبحث عن
بعثة"، "جميل ما شاء الله"، "ولكن... ماريا.. إدارة الأعمال
ليست مجالك... أنتِ ملكة الكلمات... قصصك تأخذني لعالم آخر.. لا تُضيعي موهبتك في
عالم الأرقام... أرجوك". لم تعرف ماذا تقول سكتت لبرهة وقالت "ولكني
تركت الكتابة... لم أكتب من وقت طويل.. ثم ليس لها مستقبل"، "ليس لها
مستقبل!! ماريا أنا من أول يوم عرفتك فيه قلتي لي أن حلمك هو أن تصبحي صحافية..
نسيتي؟ أنسيتي عندما كنتي تقرأين أخبار الصحف بصوت عالٍ وتبتكرين لنا قصص ما قبل
النوم؟ ...إذا نسيتي فكل آل جمعة لم ينسوا".
رأت وجه النادل الأسيوي يُقبل إليها مرة أخرى
واضعًا يديه خلف ظهره "مدام سوري، لازم تطلبين الآن"، "ون واتر
بليز"، "أوكي". رفعت هاتفها، لم يصلها رد بعد.. الساعة تُشير
للحادية عشر ونصف، يعرف تمامًا أنها يجب أن تعود للمنزل عند الثانية عشر، تأخره غريب.
تمنّت أن يأتي سريعًا، تُباغته بالسؤال سريعًا، تُلملم نفسها بعد ردّه، وتطير
لغرفتها... ولكنه لم يأتِ بعد... لعله شعر بقرب انتهاء هذه اللقاءات للأبد، فلا
مجال أن يُكررا أحداث رواية حُب في زمن الكوليرا. اليوم... في النصف الساعة
القادمة... هذه العلاقة ستكون أو لا تكون.. انتهى.
درست الأدب الإنجليزي والترجمة في جامعة الملك
سعود، ودرس هو إدارة الأعمال في جامعة أدنبره. لم يتواصلا، انقطعت الأخبار إلا من
تسريبات يحصلان عليها من لميس. تخرجت وتوظفت سريعًا ككاتبة محتوى في وكالة
للإعلان، وعاد هو ليعمل في بنك استثماري. تميّزت في كتاباتها وبدأت تبني قاعدة
جماهرية صغيرة ووفيّة، وانطلق هو في فضاء الاقتصاد فأخذ يتحدث في لقاءات بسيطة
للاقتصاديين ويخرج في مقابلات لقنوات تليفزيونية متوسطة الشهرة. وقبل عدّة أسابيع،
تقابلا صدفة، تحت الأضواء، وعلى نغمات البيانو، وبين هدير الماء.
شعرت بماء بارد ينسكب على رأسها.. بقلبها يسقط
لمعدتها.. بغشاوة تغشي عينيها.. خرجت روحها من جسدها.. وعادت. قرأت التغريدة التي
احتوت على كلمة عاجل يتلوها دائرة حمراء "وفاة الاقتصادي الشاب سامر آل جمعة
في حادث مروري".
تواصل المستشفى مع والدة سامر، وأخته لميس،
وأخوته الثلاث، وعمّه، اجتمعوا كلهم في المستشفى ليستقبلوا خبر الوفاة ويروا وجهه
النيّر للمرة الأخيرة... ولكنهم نسوها هي التي كان يقود السيارة مُتلهفًا
للُقيّاها وسؤالها "ماذا يعني لك عشاء على ضوء الشموع؟".
تعليقات
إرسال تعليق