طفولة
طفولة
أكثر لحظات طفولتي شؤمًا هي تلك الفترات
التي يقرر فيها والدي أن نذهب للبرّ، فيستيقظ بعد قيلولته كل ظهر، وينزل من الدرج متأبطًا
منشفة بنفسجية كبيرة عليها بقع وردية بسبب سوء استخدام المُبيّض، ثم يدخل إلى
المطبخ حيث تهمّ والدتي في تمام الساعة الثالثة والنصف عصرًا بإعداد القهوة
العربية، ويقف عند الباب معلنًا لها أن أجواء اليوم تُنادي للبرّ.
قد يرقص أي طفل فرحًا بسماع مثل هذا الخبر
وكأنه دمية راقصة، ولكني أنا وأخي وأختي كنا نتبادل نظرات الخوف والحزن لأننا نعرف
الأسطوانة التي تُعاد مرارًا وتكرارًا إذا قررنا الخروج للبرّ. تمالكت أمي أعصابها
ووضع دلّة القهوة المعدنية ببطء وحزم على الطاولة، وقالت "تبي أسوي القهوة
ولا تسويها هناك؟". كانت الفراشات تتطاير من رأس أبي بعد أن أخذ قيلولة عميقة
بعد تناول كبسة سعودية حمراء مشبعة بالدهون، فقال بصوت مثقل من النوم "سأعدها
بنفسي في البرّ، لكن جيبي المعاميل كلها".
- أبشر.
- الهيل والزعفران
والقهوة والماء.. جيبي لنا زعفران زين ولا تجيبين المصفّر وطقته نبي قهوة مهيلة
محبوكة.
- طيب.
كنّا جالسين
في صالتنا التي انتقت أمي أثاثها بعناية، كانت جدران الصالة مطلية باللون العنابي
وفرشت أرضها بسجاد عنابي وأبيض، وأما كنبها فكان الجزء السفلي منه لونه برتقالي
فاتح والعلوي برتقاليًا غامقًا. كنت مستلقية على ظهري أمامي شاشة التلفزيون المدبب
موسعةً بين ساقي ورافعة كل قدم على حافة التلفزيون، ولو رآني شخص آخر من ثقافتنا
لظن أنني أتحرق شبقًا تحت تعريف فرويد. وأما أختي فقط ألقت جسدها الصغير على كنبة
مفردة واضعة رأسها على أحد أيادي الكرسي ومُنزلة ساقيّها من الجهة الأخرى. وأخي
كان مستلقيًا على الكنبة الطويلة ممسكًا بيده جهاز التحكم بما أنه الذكر الأكبر وكأننا
قطيع حيوانات ولسنا بشر.
أخفّض أخي
صوت التلفاز بمجرد نزول أبي فعرفنا جميعًا أن عصريتنا ستكون سيئة مثل طعم بسكوت
الموز الذي تشتريه أمي كل مرة لنحتفل فيه بالجنادرية ويبقى لسنة كاملة في الدرج
دون أن يمسسه أحد، سوى من بسكوتة واحدة تتشارك العائلة في فتحها وتذوقها لنرى إن
كنا سنغيّر رأينا حيال طعمه أم لا. لم يسعفني الوقت لأنزل ساقي وأركض مسرعة نحو
الكنبة حتى لا يراني أبي في هذه الوضعية المشينة، فما إن أنزلت ساقي الأولى حتى
سمعت صراخ أبي "بنت!! عدلي جلستك! لعد أشوفك تجلسين كذا.. عيب!!".
كان والداي يعرفان
تمامًا أن مواضيع الجنس تتسرب من عالم الكبار إلى كوكب بون بون. ولكنهما كان
يُعطياني أنصاف كلمات لا تحمل معنى واضحًا. فتارة أمي تنبهني من استكشاف منطقتي
بعمق، وتارة أبي يمنعني من أستلقي على بطني. لم أكن أعرف سبب ذلك، ولكنني عرفت أنه
إن كنت سأفعل ذلك فسيكون من وراء حجاب. وهذا ما فعله أخي بي، عندما اختلينا في
غرفة الضيوف المهجورة طالبًا مني أن أتلمسه، وبما أن الباب موصدًا حققته له ما
يريد.
كانت أمي
تكره البرّ لسببين رئيسيين، الأول هو تنظيف الأواني وتنظيف الملابس وأجسادنا بعد
هذه الرحلة المملة التي ستجلس فيها متلحفة بالسواد في أرض الله الخالية ونحن نصعد
التلال الرملية مع بابا ونركب مهرة "مسعود" السوداني وقد يحالفنا الحظ
مرة أخرى فنُقابل فرح وسحر صديقتينا في المدرسة. وأما السبب الآخر والأهم، فهي لا
تجد جدوى من زيارة البرّ ونحن نعيش وسط صحراء فمن اللحظة التي يختار فيها أبي إحدى
الشجرات المتفرقة بين هذه الرمال لتكون صالتنا المؤقتة بقهوتنا ومزاحنا وعراكنا
تنزل أمي من السيارة لتفتتح صالتنا الجديدة بجملتها المعتادة "وش فرقها بالله
عن شجرتنا في الحوش؟"، لا يرد ابي عليها بل يُوزع المهام بيننا سريعًا لإنزال
أغراضنا من السيارة ويصرخ في وجيهنا إذا أمسك كل واحد طرف السجادة لفرشها فنكتشف
أننا مسكناها من جهتين معاكستين لذا أصبحت السجادة ملتوية في الهواء ثم يأمرني أخي
أن أعكس زوايا السجادة، فالزاوية التي أمسكها بيدي اليمين أضعها في يدي اليسرى
والعكس، ولكن يدي الصغيرتين لا تقدر يدي على مسك السجادة ولويها في آن واحد فتسقط
على الأرض وتبدأ أول نبوات غضب أبي "بنت!! امسكي الفرشة زين! لا تتوسخ
سمعتي!".
كنّا نمشي
أنا وأختي منار على التلال الرملية الناعمة، نسير ببطء من سجادتنا حيث يتقرفص أبي
أمام اللاشيء محاولًا إشعال الحطب لصنع قهوته، وما إن نتبعد بمسافة كافية لتفصل
وصول الغبار الذي سينتشر من سرعة أقدامنا إلى سجادة أبي حتى نركض بأسرع وتيرة
محاولين إن نحاكي سرعة سونيك.
كانت أقدامنا
تغوص في الرمال الناعمة، وكنت أتعب كثيرًا في مرحلة الصعود ولا يخفف من ألمها إلا
تذكر مشاعر الدحرجة على ضلع التلّ. كانت أختي منار تواجه ضعف مشقتي في الصعود، فهي
بلغت لتوها عشر سنوات وبدأت حلمات ثديها تبرز قليلًا وكأنها حبات عنب ورأسها يبتعد
عن عيني أكثر وأكثر، فحكم والديّ بالإجماع على وجوب ارتداءها للعباءة السوداء
والحجاب الأسود تمهيدها لتغطية الوجه. لا أنسى ذلك اليوم الذي ذهبنا فيه مع والدي
لشراء العباية لمنار. كانت أسرع عملية شراء شهدتها في حياتي، أسرع حتى من وقتي
القصير الذي أقضيه في البقالة لشراء الأيس كريم نفسه في عصر كل صيفية. دخل أبي
بجسده الطويل ولحيته الكثيفة لأقرب محل من سيارتنا، وسرنا نحن وراءه وكأننا فراخ
بطة. سلّم والدي على العامل الهندي في المحل ثم سأله: عندك عباءات بنات صغير؟
- ايه كم عمر؟
- 10
سنوات.
أخرج الهندي
عباءة سوداء بأكمام تضيق عن عند الكتفين ثم تزداد اتساعًا عند اليدين، ويُزين حافة
الكمّ خيوطًا بنفسجية، أطلق عليها البائع اسم عباءة الفراشة، فاتسعت عينيّ أنا
ومنار وأخذتا تتلألأ ولكن قلبانا اختبئا عميقًا داخل أحشائنا. لم يكتفي العامل
بذلك الإغواء البجيح، بل اخرج بسرعة، دون أي مراعاة لحالتنا النفسية وانبهارانا
الكبير، عباءة أكثر جمالًا كانت عباءة سوداء أيضًا ولكن أكمام العباءة كانت تنزل من
نهاية المعصم إلى طرف العباءة بالأسفل، وزاد جمال الكم التطريز الأزرق الممتد على
اليد كاملة. هنا لم نتمالك أنفسنا ففغرنا أفواهنا، وازدادت نبضات قلوبنا، والتفت
لا شعوريًا بعينين غارقتين في الحب لأبي فقرصتني أختي بسرعة لأعود لوعيي. وكما
توقعنا حطم بابا كل هذه الأحلام بجملة واحدة: لا، أريد عباءة سادة ما فيها ولا
نقش.
كانت العباءة
هي بوابتي أنا ومنار للخروج من كوكب بون بون، فبعد أن ارتدت العباءة حُرمنا أنا وإياها
من الخروج للبقالة تمامًا، وأصبح عبد الله هو الشخص المسؤول عن تدوين ما نشتهيه من
شوكولاتات وآيس كريمات وبطاطسات ليحضرها لنا. كان قرارًا مارًا بالطبع، خصوصًا
عندما كنا نجلس في السيارة وننظر له يدخل إلى البقالة ليحضر لنا الأشياء ونحن
ننتظره. لكننا اعتدنا الأمر، حتى حدثت تلك الصدفة التي لا تحدث إلا مرة كل عام،
سحر وفرح نزلا البقالة نفسها في الوقت نفسه الذي نزله فيه عبد الله. لا أعلم إلى
الآن لما تخبت منار تحت المقاعد وأشارت لي ان أواري جسدي النحيل خلف المقعدة لكي
لا تعلمان صديقتينا أننا هنا ننتظر. ولكن عبد الله أفسد الخطة وفتح الباب السيارة
على مصراعيه لترانا مخبأتان وكأننا فأرتان واحدة بيضاء وأخرى سوداء.
استغربت أن
أبي لم ينضم لنا هذه المرة للعب على الرمال فهممتُ بالذهاب ودعوته للانضمام لنا.
فجسده الكبير وهو يتدحرج على الرمال وضحكته المدوية تُضحكاني كثيرًا! وأظن أن أجمل
ذكريات صنعتها مع والدي كانت على التلال الرملية بالضبط، وليس عند التجهيز للنزهة
ولا الجلوس عند سجادتنا تحت الشجرة وليس عند قيادة السيارة ونحن عائدين في طريق
مظلم وبأقدام دملة بل هذه اللحظة تمامًا. ولكن عبد الله نهرني قائلًا إنه حصل شيء
ما لا يعرفه ولم يحتسي بابا قهوته فالأفضل لنا أن ندعه وشأنه مع أمي.
عدنا أنا
ومنار وعبد الله بعد تدحرجات طويلة على التل الرملي للسجادة، ونحن نجرّ الخطى
وتتمايل رؤوسنا من فرط التعب. كانا والديّ يجلسان على الفرشة والدي متكأ ينظر لما أمامه
بحزم، وأمي تلعب بالخيط الدائري الخارج من العباءة الذي تمرره من خلاله أصبع
الإبهام حتى لا تنزل العباءة من رأسها. كانت السجادة يلفها صمت مريب، شعرنا به
ونحن نبعد عدة أمتار عنها وما إن وصلنا حتى التفت بابا لنا بعد برهة ثم هزّ رأسه
يمنة ويسرى وكأنه يحاول رمي شيء عالق في شعره وقال "يلا يلا مشينا".
كنا متعبين،
متعبين لدرجة أن بابا أعفانا نحن البنات من إعادة أغراضنا لحقيبة السيارة. جلست في
المنتصف بين منار وعبد الله، ثبت رأسي على المقعدة، ورميت يدي بجانبي بإهمال. كان
الطريق طويلًا، أردت أن أنام، ولكن تلك الأشعة التي كانت تلمع من آخر الطريق
أسرتني فلم أستطع النوم. الشمس تغرب وأخذت السماء تتباهى بألوانها وكأنها من طاؤوس
شبق، استعرضت أولًا لونًا ياقوتيًا لامعًا ثمّ تحولت للأحمر للبنفسجي للأزرق
الغامق للنيلي وأخيرًا للأسود. واستسلمت عيني مع ذلك السواد.
كانت تلك
النزهة البرية التي أعدناها مرارًا وتكرارًا لدرجة اعتقادي أن جميع السعوديين
يمارسون النزهة نفسها والعراكات نفسها هي المحطة التي تغيّر بعدها كل شيء. كانت
نزهة عادية، خرجنا وتعاركنا ولعبنا، ولكن تبعاتها كانت تمزق قلبي إربًا. قالت لي
منار وعبد الله أنه في تلك الليلة، حملني والدي من السيارة إلى غرفتي وطلب من
الجميع أن يرتاحوا. وتبرع للمرة الأولى بتفريغ السيارة ولم يغضب تلك الليلة أبدًا
حيال الرمال المتناثرة على مقاعد السيارة وتحتها.
استيقظت
والرمال ما زالت تحيطني، يبدو أنني تقلبت كثيرًا على الرمل ثم كثيرًا على السرير
حتى أفرغت جيوب بنطالي من كل تلك الرمال على السريع. شعرت بثقل على أكتافي واتساخ
جسدي، فذهبت لدورة المياه وأخذت حمامًا سريعًا ولبست فستانًا منفوشًا أحبه وأنا أدعي
ألا تطلب مني ماما أن أغيّره. ثم توجهت للدرج حتى أذهب للمطبخ واصنع فطورًا سهلًا
علي، ولكن أصوات غريبة تناهت إلى أذني. صوت رجلين، شعرت أنني أعرفهما، يبدو الأول
صوت جدي والأخر... هل يعقل أنه خالي؟ نزلت باستحياء ووقفت عند نهاية الدرج شبكت
يدي خلف ظهري وشابكت بين ساقي وأنا أنظر لهم.
- يا هلا يا هلا..
ارحبي ارحبي.
ركضت لحضن
جدي فاستقبلني بالقبلات. كان وجهي أمي متورمًا، وعيناها حمراوان، وخالي مخيف يبدو
وكأنه غاضب أو أنه مُنع من الكلام. همس جديي في أذني: عادي نأخذ ماما تقعد معنا
شوي؟
قلت ببراءة:
ايه.
ضحك جدي بصوت
عالي: شفتي إنت أخر همها صح عادي تجي معنا؟
- ايه عادي... بأكل
اللي أبيه.. وما بأذاكر وبأتابع تلفزيون كثييير.
يبدو أنهم لم
يصدقوا خبر، صنعت أمي لي رقائق كرون فليكس كما أحبها، حليب بارد وعليها الرقائق ثم
العسل، وتركتني وأنا أتابع التلفزيون لتعد ثلاث حقائب كبيرة. نزلت عند خالي وطلبته
أن ينزلها لها، لبست عباءتها كما المعتاد ونظرت لي مطولًا، وتظاهرت أنا أنني لم
ألحظ تأملها الطويل لي. سمعت جدي يقول لها: الوداع موب زين لا تودعينها. فقالت
بصوت مرتجف لي: مع السلامة... شوي وبأرجع ما بأطول تمام؟
- تمام، مع السلامة.
ولكن أمي لم
تعد. سألني عبد الله ومنار عن كل التفاصيل، وكلما أخبرتهما بالقصة طلبوا مني
تفصيلًا آخر، فأخبرهما أن هذا كل ما في القصة فيغضبان، فأحن وأتظاهر أنني نسيت
شيئًا وأضيف جزءًا لم يحدث كقبلة أو حضن أو حتى بعض السباب.
تعليقات
إرسال تعليق