الجمعة، 14 أكتوبر: أنا والرياض

  

الجمعة، 14 أكتوبر: أنا والرياض


 

 

"الرياض"...  لا تعني هذه المدينة شيئًا معينًا. الرياض بالنسبة لي كعكة بلا أي نكهة، شاهي غير محلى، زبادي بدون فاكهة. الرياض لا شيء. لا أتذكر أنني سافرت مرة وقلت هذا المكان، تلك الرائحة، هذا الصوت ذكرني بالرياض. أصعب مدينة في الوصف هي أرض اليمامة، تقف أمامك شامخة بدون ملامح، ولا روائح، ولا شخصية وتتحداك أن تصف صحراءها القاحلة وحرها الصارخ وجفافها القاتل. الرياض هي المحال. الرياض هي الصمت المطبق، والاختباء في المنزل من هول التعاسة. الرياض هي صمت المقاهي، وخوف النساء، وانخفاض القهقهات. ولكننا أنا والسبعة المليون الذي يقطنونها نُحبها. مهما شدينا رحالنا فنحن نركض لها متلهفين لسماع صمتها عطشى لارتشاف جفافها.

يأتي لنا موسم الرياض لست شهور في السنة. تدوي صرخته في أرجاء المدينة لتبعثنا من بيوتنا، لنحتفل، ونرقص، ونتذوق الموسيقى، ونتباكى على أم كلثوم، ونترحم على عبد الحليم حافظ. نخرج صرعى من هول السعادة، نركض تاركين أبواب منازلنا مفتوحة. نحتفل، نرقص، ندندن، نأكل، نسير على الأرصفة، ثم يعود سباتنا الصيفي. الرياض مملة كمسلسل "بريكينق باد"، مُحالة كميّ زيادة، كئيبة كفرانز كافكا، بلا طعم كشوفان بالحليب.


لأصدق القول، حي السفارات يعكس الرياض كثيرًا. تعجبني تلك المباني الضخمة المكسوة بألوان الجمال ونوافذها المستطيلة الضيقة والتطريز الأبيض الذي يُزينها. تُطربني أصوات العصافير وهديل الحمام التي تتنقل بين النخيل الباسقة وأشجار السدو ذات الأغصان الفارعة. أشعر في السفارات أنني انتقل إلى حقبة المؤسس عبد العزيز -رحمه الله-، ولكن منظر الشقراوات وهنّ يتجولن بتنانير قصيرة تكشف عن سيقانهنّ الطويلة تُعيدني لزماننا.
 
أما المشروع الأخر الذي يُعجبني كثيرًا لدرجة أنني أتشاجر مع السائق ليوصلنه عن طريقه، حتى لو كان طويلًا ومزدحمًا، هو طريق العليا. منظر الخزامى البنفسجية المتناثرة على الطرقات تُضيف لمسة أنثوية كانت مُحرّمة على هذه الصحراء. وأرصفتها الواسعة والمرصوفة بعناية يمشي عليها الناس مبتسمين ومتظللين بفيّ أشجارها التي بدأت تمدّ فروعها في السنة الماضية. إن لم تعجبك العليا فيكفيك اسمها العذب العِليّاء بكسر العين كما ينطقها أهل نجد.
 
أمرّ يوميًا من طريق العِليا لأصل إلى مقرّ عملي في التحلية. كانت التحلية في مطلّع الألفية بمثابة بوليفارد الرياض سيتي وقتذاك. بُنيّت التحلية بمعايير عالمية، فأرصفتها الواسعة والمشجرة مطلّة على جلسات المطاعم والمقاهي. تمشي على أرصفتها لتُصادف مخبز فرنسي فيتنامى إلى مسمعك أنغام موسيقى الجاز، وتسير لتمرّ من مطعم برجر عصري يغني منه جاستن بيبر، ثم تعبر من أمام أحد مقاهي الشيشة المنتشرة هنا كثيرًا فتسمع صوت أنغام.
 
لا أواجه مشكلة مع التحلية، ففيها رزقي حيث أقصد صباح كل يوم. وأحب ناسها كثيرًا. فبعد أن شعرت بالملل من تأمل وجوه الغرباء في شمال الرياض المتنكرين بأقنعة الانشغال والمرتدين للباس ليس بلباسهم، جئت هنا لأرى ما لم أره. ستاربكس هنا مهجور، فمن يريد قهوتها الحالية وأغانيها الصاخبة؟ ففي التحلية يحتلّ مقهى كوستا شعبية كبيرة بين السكان. لا تختلف أجواء المقاهي ونقاشات مرتاديها كثيرًا عن بقية أهل الرياض، فجميعنا في أرض اليمامة مشغولين بدفع عجلة التنمية ومستعدين لرهن كل أموالنا لفتح مقهى جديد.


تشعر في التحلية أنك داخل فقاعة زمكانية. فبالرغم من تغيّر الرياض الكبير حيث استبدلت النساء العباءات السوداء بالملوّنة، وصمت المقاهي بنغمات العود، وهجران الأرصفة باستيطانها. إلا أنّ التحلية متشبثة بعجلة الزمن وكأنها لا تريد توديع ذلك الزمن الجميل. سترى فيها قصات شعر الرجال المرتفعة للأعلى باستعمال مفرط من الجل، ومقاهي الشيشة، والعباءات السوداء الحريرية بتطريز لامع، والبطاطس المقلية الغارقة بالكاتشب.
 
فجعت اليوم عندما كنت في الصيدلية ودخلت فجأة سيدة ليس وكأنها جاءت من سنة ٢٠١٣، بل هي جاءت من تلك الحقبة فعلًا. ترتدي المرأة عباءة سوداء حريرة واسعة تُزين أطراف كمها خرزٌ أسود لامع. وتضع على رأسها الطرحة دون شدها ويظهر من مقدمة رأسها خصلات شعر يُشبه لونه لون الغزال، ولكنه يميل للبرتقالي أكثر. تُغطي وجهها بنظارة شمسية ضخمة أطرافها مزينة باللون الذهبي. وتنتعل كعبًا عاليًا عريضًا لونه أسود وتحمل في يدها حقيبة سوداء ضخمة. أخذت تتبضع من الصيدلية برفقة ابنتها التي يبدو أنها في السابعة من عمرها وابنها ذي الخمس سنوات. كان الولدين يرتديان البيجاما في حين كانت والدتهما في قمة أناقة زمن الألفية. اشترت هي والأطفال من الصيدلية سريعًا ثم خرجوا منها، حيث كانت سيارة كادليك موديل 2010 في انتظارهم خارجًا، وعاملة فلبينية ترتدي عباءة سوداء قصيرة فتحت لهم باب السيارة وركبوها بضجيج عالٍ وموّالٍ طويل من البكاء ثم أغلقت العاملة الباب وأظن أنهم توجهوا لمطعم تشيليز.

 

يُراقب العالم أجمع حركة رمال نجد بفارغ الصبر، فالأعداء ينتظرون فشل رؤية 2030، والمناصرين ينتظرون نجاحها. وأما أهل الرياض فعالقين بين الحفريات، وأعمال البناء، وإغلاق الطرقات. يتذمرون تارة، يغضبون مرات، ولا يتوقفون عن الحلم والدعاء والسعي والانتظار. نحن لا نرى حلمًا بل نلمس تغيرًا، نحن لا نرى رؤية بل نشهد خطة عمل. أدعو، أنا وأهل الرياض، كل يوم أن نحقق ما نريد، وأن تُصبح الرياض جوهرة العالم، مزارًا للسيّاح، ملتقى للفنون، ومحطًا لأنظار العالم بأسره.




تعليقات

ما أحبه القرّاء