لستَ طلال مداح
لستَ طلال مداح
تقرفص صقر في الممر الخلفي للمطعم،
ممسكًا بيده اليسرى سيجارته البيضاء يُدخن منها دخانًا أسودًا خانقًا وواضعًا بجانه
آلة العود. كان يستنشق السيجارة ملتهمًا دخانها، وهو يدندن نغمات العود التي
سيعزفها بعد عدة دقائق أمام أشخاص يعرفهم جيدًا. فهو يعرف أن الطاولة الأمامية
للمسرح الصغير سيشغلها مجموعة من رجال الأعمال عندما تراهم لأول مرة ستظنهم خمس
توائم متطابقة؛ فجميعهم حلقوا لحاهم من الخدين وتركوا شعر الدقن ينمو تحت فميهم، ووجيههم
دائرية مشربة بحمرة. وعن يمين هذه الطاولة
سيجلس مجموعة شباب وسيمين، يرتدون ثيابًا بيضاء ويعتمرون غترًا حمراء. تظنهم في
الوهلة الأولى مجرد شباب عاديين، ولكن ما إن تمعن النظر فيهم ستلاحظ ساعات "هوبلت"
تزين معاصمهم، وكبكات "مونت بلانك" تغلق أكمام ثيابهم. وأما عن اليسار
فطاولة آنسات في غاية الجمال والأناقة يرتدين عباءات ملونة ويضعن على رؤوسهم
حجابات دون شدّها على رؤوسهم مما يضفي لهن رونقًا خاصًا. جميعهن غير مهمات، كلاهن
صفر على الشمال، ما عدا صاحبة العباءة السوداء التي اختارت وسط كل هذه البهرجة من
حولها أن ترتدي السواد. جميعهم غير مهم حضورهم، حضورها هي فقط مهم. لا يعلم إن
كانت ستأتي أم لا، إن كانت خُلقت في هذه الحياة أم لا، ولكنه عزم قراره، سيصعد على
المسرح، إن رآها غنّى وإن لم يرها نزل من على المسرح المتواضع.
وقف، ورمى السيجارة على الأرض، ووطأها بحذائه
الأسود اللامع الواسع على قدمه قليلًا. حمل عوده على كتفه، وعندما رفع بصره، رأى
شبح أخاه قادم له.
سار أخاه باتجاهه
وهو ضامّ يديه إلى صدره: السلام عليكم.
-
وعليكم السلام... وش تبي؟
-
ما توقعت إنك تسويها.
زفر صقر زفرة
طويلة، وقبض بيده بقوّة على حقيبة العود: نعم، قلت لك في البيت أني بأجي.
قبض أخاه يده
وضرب ضربة قوية على الجدار: أنت حمار ولا أيش! قلت لك لا تجي تبي تروح للموت
برجليك!
التفت صقر حوله
بسرعة: أخفض صوتك لحد يسمعنا! قلت لك رايح رايح!
أخذ صدره يرتفع
وينزل، شدّ لحيته الصغيرة بأصابع يده اليمنى قليلًا: صحيح، قلت إنك بتجي. ما أدري
ليش أنا جيت...
وجلس أخاه على الأرض واضعًا يده فوق رأسه ومنزلًا
وجهه بين ركبتيه وقال له بشيء من الهمس: هذه ليست حياتك الأولى، بل حياتك
الثانية.. أفعل ما شئت... اللي يحرق قلبي إنك أخوي... وإنك تعرف وش اللي بيصير...
أنا ليش كذا وش دخلني فيك..
وضع العود
على الأرض، اتجه لأخيه وجلس بجانبه: أتركني في حالي... من جدي والله.. أنا إنسان
صعب.. خلاص طنشني.. تـ .. تبرّى مني!
رفع رأسه
بسرعه، وضرب صقر على كتفة ضربة قوية لدرجة أنه فقد التوازن فوقع. ثم وقف وقفز في
الجو وهو يصرخ: يا جحش يا جحش، أتعلم أنهم سيصورونك؟!
- نعم
- أتعلم أنها ستقول
"تخيّل بس أوافق، يع!"؟؟ تعرف ولا لا؟
- نعم
- وتعرف أن الناس
متجمهرة حول المطعم تنتظرك تعيد هذا المشهد السخيف؟!
نظرة إليه
بعينين متلألئتين.. ابتسم ابتسامة خفيفة: أدري.
لفّ بعصبية
وولّاه ظهره وهو يقول: أقسم بالله أنك جحش.
- تِذكر.. لا تهتم..
وإلا تدري.. تذكر كيف طلال مداح رجع للمسرح؟! هاه؟! رجع بدون ما يخجل أو يخاف...
رجع وغنى ومات في المكان نفسه.
- ذاك طلال مداح...
أنت صقر!
سمع صوت
الباب يُفتح، ظهر منه شاب يرتدي بدلة بيضاء عليها مريلة وقبعة وردية تافهتين، وقال
له: أستاذ صقر بعد خمس دقايق تبدأ الفقرة، تجي تجهز أغراضك؟
أومأ له وهمس
"بجيّ شكرًا"، ثم التفت لأخيه وقال: أدري إنك زعلان مني.. ولكني أسف هذا
قراري.
اتسعت عينا
الشاب من الدهشة التفت حوله ووراءه ثمّ قال: أنت مين تكلّم؟
حمل عوده،
وضعه على ظهره، وقال: يلا يلا جاي.
دخل المطبخ
الخلفي، حيث كان الطبّاخين يتصادمون وهم يحملون الصحون متنقلين في أركان المطبخ
وكأنك في الدائري الشرقي، والطاهي الرئيسي يصرخ عليهم بالطلبات ويذكرهم بالمتأخرات.
كان عقله هو أيضًا يشهد الحالة نفسها، يتذكر الماضي، كيف ضحكت بازدراء عليه، كيف
كان ينتظر هذه اللحظة طويلًا، وكيف انكسر قلبه، "تخيّل بس أوافق، يع!"،
الشباب في الطاولة اليمنى يضحكون عليه، الشاب الأشقر يلتفت لها ويصرخ " يا حليله!"،
"صوتك جميل"، عقد العزف في المطعم كل ليلة خميس، التصفيق الحار بعد
أداءه لأغنية ليلة خميس، المقاطع التي تنتشر لغنائه، الضحك، ملاحقة المراهقين له
في المقهى، "أنت اللي طيحت البنت وجهك؟"، غناء، تصفيق، ضربات قلب، دق
عود، أصابع مجرّحة، ودقات قلب، ودغدغات في معدته.
فور خروجه من
المطبخ عاد الصمت، وتسلل إلى أذنيه نغمات عزف بيانو. كان الناس يتجاذبون أطراف
الحديث بلُطف وبضحكات خجولة ونظرات مرتقبة. جال بنظره حول المكان، هؤلاء هم رجال
الأعمال الخمسة كما هم لم يُغيروا شيئًا في هيئتهم أو لِحاهم. وها هي مجموعة
الشباب، ظنّ أن واحد منهم مفقود، ولكن الأشقر الجالس في الطرف الأيسر للطاولة كان موجودًا.
وطاولة الحسناوات متكاملة بألوانهنّ الزاهية، وتلك العذراء بعباءتها السوداء عادت
من جديد لتجلس في المنتصف. لم يتغيّر شيء مجملًا، رغم أن الكثير من الأشياء في
الحياة الثانية تغيّرت، بالرغم من أن الكثير من الناس رفضوا أن ينجبوا أبنائهم
عندما عادوا للحياة للمرة الثانية، وبالرغم من أن الكثير من الاختراعات لم
يستطيعوا ابتكارها مرة أخرى. ولكن مطعم "الليالي" على طريق "تركي
الأول" صمد أمام كل هذه التغييرات، فعاد جميع الطهاة والندلة إليه، حتى مغني
ليلة الخميس عاد إليهم. وها هم الآن يُعيدون أول ليلة خميس في 2019، الليلة التي
يكسب فيها صقر تعاطف المئات ويسخر منه الملايين.
بدأت دقات
قلبه تتسارع.. دووف...دووف..دووف. رؤيته أصبحت ضبابية ولكنه استطاع أن يمشي إلى
المسرح. وما أن وضع العود على الأرض، حتى بدأ الصمت ينتشر في أنحاء المطعم، وتوقف
الناس عن إعطاء الطلبات للنادل. بدأت يديه ترتجفان، شعر أن روحه تخرج من جسده، بدأ
يرى نفسه من أعلى، رأى جسده الهزيل
المختبئ تحت هذ الثوب الفضفاض، ووجهة الصغير بأنفه الكبير وهو يفتح الحقيبة
السوداء التي استلقى العود فيها بعناية. تسارعت دقات قلبه أكثر وأكثر دووف..
دووف...دووف. أمسك العود بيديه اليسرى بصعوبة، ثم تناول الريشة باليمنى. جلس على
الكرسي الأسود، ضمّ العود إلى كتفه، عدّل شماغه الذي مال قليلًا مع حركته، وقرّب
الميكروفون من فمه. أغمض عينيه، يسمع الآن دقات قلبه بوضوح دووف.. دوووف..دوفف،
أخذ نفسًا عميقًا، وقال: "تيست" "تيست".
نظر إلى
اللاشيء، إلى جباه الناس، لم يرى وجوههم أبدًا، وقال بصوت رخيم وفخم: مسّاكم الله
بالخير جميعا!
ردّ
الحاضرين: مسّاك الله بالنور.
أخذت أصابعه
تعزف أنغام أغنية ليلة خميس بتلقائية متناهية، فهو لم يضطر أن يحفظها بعد أن عاش
مرة ثانية، فقد بقيت نغماتها في ذاكرته مع باقي الذكريات. كانت أصابعه تُراقص
أوتار العود برشاقة، نغمة خلف نغمة، مقطع مثالي يتبعه مقطع مثالي. الحضور يتهامس..
الحضور ينظر لقدميه... يحاول إخفاء قدميه الصغريتين المختبئتين في هذا الحذاء
الواسع.. الشاب الأشقر يبتسم ابتسامة واسعة.. أحد رجال الأعمال يرفع هاتفه ليصور
المشهد الدرامي كما فعل في المرة الماضية.
متى تنتهي
هذه الأغنية؟... بعدها مباشرة سينتقل للأغنية التي غيّرت حياته... قلبه يدق
بقوة... يشعر أن عينيه ستخرج من محجرهما من هول الموقف.. حوّل نظره من السقف
للأرض.. هذه قدميه.. التفت يمينًا.. فإذا بمرآة طويلة تعكس خشمه الكبير.. التفت
يسارًا.. فإذا بالنادل الشاب يهمس في أذن زميله وهو فاغر فاه... فنظر إلى
طاولتها.. فوجد نظرة ازدراء.. فنظر في عينيها... وتوقف عن العزف.
أنزل العود
لحضنه... وشرع ينظر إليها... أنزلت نظراتها للطاولة وحرّكت رأسها يمنة ويسرة وكأنها
بندول.. صرخ رجل الأعمال "يلا يا صقر!"... فتحمس عدد من الحضور فصفقوا
تصفيقة متفرقة... كان صدره يصعد ويهبط... احتضن العود من الجديد.. وشعر بأصابعه
هذه المرة تتحرك مع الأوتار لتخيط أنغام "عيونك آخر آمالي"... أغمض عينيه..
ورفع رأسه عاليًا.. ولم يعدّ يشعر بوجوده وكأن روحه ارتفعت للسماء.. هذا شأن
أصابعه وعوده وقلبه فقط... هذا ليس شأنه أبدًا... يشعر بأصابعه تضغط الأوتار
وترخيها... وبالعود ينشر النغمات.. أخذ جذعه يتمايل قليلًا... وقلبه يهدأ
كثيرًا... وبصوته يخرج هادئًا شجيًا لينقل كل من في المطعم إلى عالمه.
عيونك آخر آمالي وليلي أطول من اليم
كيف ألقى كلامٍ عذب يوصف دافي احساسي
عشقتك قبل ما أشوفك وشفتك صرت كلي حلم
أبي رمشك يغطيني وأبيك أقرب من انفاسي
يهمك تعرفي أنك قتلتي في سنيني الهم
قتلني ضحكك وجدك قتلني لينك القاسي
عيونك آخر آمالي وليلي أطول من اليم
كيف ألقى كلامٍ عذب يوصف دافي احساسي
أخذ نفسًا
طويلًا.. فتح عينيه ببطء.. رأى الناس تقف... الشاب الأشقر يُصفق... النادل الشاب
يُصفّر... لم يعيي تمامًا ما فعل.. كان في منطقة اللاشعور... ابتسم بارتباك. همس
"شـ.. شكرًا". عاد الحضور للجلوس على المقاعد... نظر إليهم... كانت
نظراتهم مليئة بالخوف... كانت ملامح وجوههم يُغطيها قناع الرعب... ركّز نظرته على
تلك الطاولة... كانت تُشيح بنظرها عنه.. وأخذت جزء من طرحتها لتغطي جزءًا من
وجهها.
قال:
اعذروني.. ولكـ... ولكن..
قاطعه أحد رجال
الأعمال: صقر.. أقدر أطلبك طلب..
نظر إليه
بارتباك، وهزّ رأسه موافقًا.
- طلبتك قول تم؟!
- بـ.. بإذن الله
- لا تعيدها... تكفى
لا.. خلاص نختم اللية بهذا الطرب خلاص.
صفق الحاضرين
تأييدًا لرأيه... وصرخ صوت أحدهم من بعيد.. "قلت لك لا!"... التفت له..
كان أخاه يقف بجانب النادل الشاب... "لا يا صقر لا!".
أغمض عينيه، وشهق طويلًا، أنزل وجهه
بإيماءة مؤدبة: أعتذر... ولكن... لازم أنهي اللي جيت عشانه... سارة... نظرتي
ومشاعري لك مـ.. ما عمرها تغيّرت... تتزوجيني؟
اكتفت هذه المرة بالصمت، لم يرَ وجهها
الذي كانت تُغطيه بطرف من طرحتها، وقفت وولّته ظهرها وسارت بهدوء إلى آخر المطعم
حيث كان الطاقم والحضور يفسحون لها الطريق وخرجت من الباب. هزّ رأسه وهو ينظر
لقدميه، أنزل العود على الأرض ووقف. سمع صوت تصفيق يدٍ واحدة، فرفع بصره، كان
الشاب الأشقر واقف وهو يصفق، وقف صديقه ليُشاركه التصفيق، فبقية الطاولة، فطاولة
البنات ورجال الأعمال والنادل الشاب وكل الحضور، جميعهم وقفوا يصفقون له. اكتفى
بإيماءة من رأسه ورفع عقاله الأسود لهم، ثم غادر المطعم وهو يجرّ أذيال الخيبة
بكلّ سعادة.
تعليقات
إرسال تعليق