أريد رواية "موت صغير"
أريد رواية "موت صغير"
كنت جالسة
على طاولة المطبخ، أتناول فطور يوم السبت الهادئ. أمامي لابتوبي أشاهد فيه مسلسلًا
وثائقيًا، وأتناول الخبز البرّ مع العسل والقشطة، وأشعة الشمس تتسلل من النافذة
لتلقي بضوءها علي. دخلت أختي قاطعة علي مسلسلي بتعليقها عن شهيتها المفتوحة اليوم
"تخيلي أفطرت ساندويشة، ثمّ تناولت خبز البرّ الذي خبزته، والآن سأصنع ثلجًا لأني
أريد قهوة!". واسيتها بأننا في بعض الأحيان نواجه هذه الشهية المفتوحة فنسمح
لها بالتلاعب بنا قليلًا ثمّ نقمعها في الأيام الأخرى. أكملت متابعة مسلسلي، وذهبت
هي لوضع الماء في الفريزر حتى يتثلّج. سمعت فجأة صوت وقوع شيء، فالتفتُ لأراها تسقط
على ظهرها في الممر الضيق الذي يفصل بين الفريزر والجدار.
أوقفت
المقطع، وهرعت إليها، ناديتها بيأس قُلت لها "أنتِ معي، لا تذهبي بعيدًا"،
ولكنها عنيدة دائمًا. ذهبت دون مبالاة لنداءي. كانت تسقط أكثر وأكثر، وعضلاتها تشد
أكثر وأكثر. تقرفصتُ قرفصاء عجيبة، واضعة يدي تحت رأسها كي لا يرتطم بالأرض، وسلّمت
تلك الشحنات الكهربائية جسدها وعضلاته، فأخذت تتلوى، وتُصدر أصواتًا مخيفة، ووجهها
الجميل يتقلّب، وصدرها يُخرفش مناديًا للاستغاثة، ويديها تتلويّان تحت الفريزر.
وأنا صامتة أنظر لها لا حول لي ولا قوة سوى أن أحاول حماية رأسها من الوقوع.
لا تستمر
نوباتها طويلًا، فهي تستمر لدقيقة واحدة غالبًا، ثم تعود للوعي تدريجيًا. بدأت
الشحنات الكهربائية تتركها في حال سبيلها، وأخذت عضلاتها ترتخي شيئًا فشيئًا، وبؤبؤ
عينيها يعودان لحركة واعية وطبيعية. لم أناديها، فقد عرفت أنها في تلك البقعة، في
ذلك الشعور بين الوعي واللاوعي. عندما تشعر أنك لست من هذا العالم ولكنك تنتمي
إليه، فتُصارع لإعادة روحك للأرض، تُصارع ليتحرك لسانك، تُصارع لترى من حولك.
رأيتها تُصارع الوقوف، فنهيتها. "خذي راحتك واسترخي، أنا معك استرخي".
فاسترخت قليلًا، ثم عاودت الكرّة فنجحت. جلَست مُتعبة، فأخذتُ أُنظف شعرها من
الغبار والأتربة التي لقطها، وأضمّ كفيها المحمرتان والمترجحتان. وبعد دقيقة اتكأت
علي، ونقلتها للصالة حتّى ترتاح.
أستشعر دائمًا
في هذه اللحظات نعمة الموت. أكره نفسي لأني أفكر بهذه الطريقة، ولكنه يستغل هذه
المآسي ليتسلل إلي. لما نعيش؟ لما نكره الموت؟ أليس بعد الموت هناء دائم؟ أريدها أن
تموت، أو أن أموت، أو نموت جميعًا. كنت أبكي دائمًا بعد نوباتها، ولكنني الآن
أكتفي بتمني الموت فقط.
*****************************
استيقظت
اليوم وأنا متعهدة بأن أكتب قصة، فهرعت بعد استيقاظي مباشرة لشاشة اللابتوب بحثًا
عن قصة، خاطرة، أو أي شخصية تُثير قريحة الكتابة، ولكن جميع محاولاتي باءت بالفشل،
وبعد مرور ساعة تقريبًا قررت الذهاب إلى المكتبة لعلّ عناوين الكُتب تُلهمني
للكتابة. مررت من كتب أغاثا كريستي، غابرييل ماركيز، وغازي القصيبي، ولكن شيئًا لم
يشدّ انتباهي. كُنت أنوي شراء رواية "موت صغير" للروائي السعودي محمد
حسن علوان احتفالًا بوصولها للقائمة الطويلة للكتاب الوطني المترجم في الولايات
المتحدة الأمريكية.
سألت موظفة
المكتبة: أريد رواية "موت صغير"، هل هي موجودة؟ وبعد دقيقتين من الكتابة
على لوحة المفاتيح قالت لي: نفذت مع الأسف.
لكنني عثرت
على رواية القندس، فقررت أن تكون تصبيرتي حتى أحصل على رواية "موت صغير"،
وعُدت للمنزل خاوية الوفاض من موتٍ صغير وإلهامٍ للكتابة.
*****************
والآن وأنا
أشعر بأسفل ظهري يؤلمني، وبآلام في بطني تُشبه أبشع ألام الدورة الشهرية المميتة، استطعت
أخيرًا أن أكتب. وعدت نفسي ألا أكون فرانز كافكا أبدًا، ألا أكون سوداوية مهما صار،
وألا أخبئ نصوصي أبدًا، ولكنني أجد حبر قلمي الآن يسيل لكتابة نصّ سوداوي أميل
جدًا لتخبأته للأبد.
تعليقات
إرسال تعليق