رسالة أخيرة

 رسالة أخيرة

 


عثرت الشرطة الأندونيسية على امرأة سعودية كانت تركض في شوارع بالي بملابس مهترئة وشعر أشعث، وقد أخذتها الشرطة إلى المخفر حيث عرفت أنها امرأة عربية من كلمات الرسالة التي كانت تحملها في يديها طوال الوقت. وسلّمت الشرطة السيدة السعودية للسفارة في العاصمة الإندونيسية وقد كانت بحالة جيدة، إلا أنها لم تكن تتكلم ولم تشرب أو تأكل أي شيء لعدة أيام.

عرفت السفارة السعودية أن السيدة غالية جاءت برفقة زوجها لقضاء شهر العسل هنا، ولكن زوجها مختفي حتّى هذه اللحظة، ولم تشرح السيدة لأحد ما جرى بينهما ويبدو أنها في حالة نفسية سيئة. فقد كانت تبدو ساهية طوال الوقت وهي ممسكة بالرسالة الطويلة. وبعد أن استعانت السفارة بطبيب نفسي، استطاعوا أن يجعلوا المرأة تغطّ في النوم حتى يتمكنوا من أخذ الرسالة لعلها تبرر سبب حدوث كلّ ذلك.

 

 

"كانت كل الأيام متشابهة، أصحو كلّ يوم في الساعة السادسة والنصف، أجرّ قدمي متجهًا لدورة المياه، أغسل وجهي، وأفرش أسناني، ثم أعدّ قهوتي وأجلس في الصالة على زاوية الكنبة الرمادية ذات شكل حرف "إل" الإنجليزي حيث أستمتع من تلك البقعة بمشاهدة منظر النافذة الكئيب المطلّ على سطح الجيران المتسخ والمليء بالخردة وأضع عن يساري طاولة خشبية صغيرة عليها كتابي وقهوتي حيث استلقي وابدأ بالقراءة، هكذا كانت صباحاتي لثلاثة عشر عامًا متواصلة.

 

اقرأ لساعة أو ساعتين كل صباح، وكتبي تتنوع بين الأدب والسياسة، أحب كافكا وميلان كونديرا، وقد قرأت أعمالهما كاملة، في حين تُثير جين أوستن رغبتي في التقيؤ. كثيرًا ما اقرأ وأنا أسمع لموسيقى الجاز، أو اقرأ دون أي موسيقى، وقد أتأثر بعض الأحيان ببعض الكتابات فأحاول أن أكتب. بعد ما أنهي قراءتي الصباحية، ألبس ثوبي وجزمتي السوداء، أعتمر غترتي وأتجه لعملي. لا يزيد يومي سوءًا سوى زحمة الرياض المقرفة، وما يزيدها قرفًا هو طريقة قيادة الناس فيها. أصل لمكان عملي، أركن سيارتي في مكانها المخصص كالعادة، وأدخل المبنى بخطى ثقيلة، أشعر بيدٍ تقبض على حلقي عندما يسلّم علي موظف الاستقبال. أود أن أذهب له وأهمس له "خفف حماسك قليلًا، لا شيء يسوى كل هذا الترحيب فنحن موظفين عاديين ندخل دوامنا وشكلك يبدو سخيفًا وأنت تُرحب".

 

أجلس على مكتبي الأبيض الخالي من أي علامة من علامات الحياة والمكشوف أمام الجميع، تجلس أمامي موظفة تبالغ في وضع المساحيق لدرجة أن طبقات وجهها تتقطع في آخر فترة العمل وتُزيّن مكتبها بكل ما يخطر على البال أو أنها لا تملك غرفة في منزلهم فتعوض نقصها في هذا المكتب الصغير المسكين. عن يميني عزام، أعرفه منذ سنتين عندما انتقل للعمل عندنا، تُخيفني ابتسامته الواسعة وكأنها ابتسامة تمساح ومع ذلك لا يكف عن الابتسام، تشعر أن بداخله عربيد صغير، وقد قسم شعره إلى قسمين بالعرض؛ الجزء العلوي من شعره يصلّ إلى كتفيه أما الجزء الآخر فهو محلوق على الصفر. وأما عن يساري فموظف آخر جديد، عجزت أن أعرف عمره فمن شكله يبدو لي أنه في بداية العشرينات ولكن فلسفته وثقته الزائدة تُشير أنه في أول الثلاثينات.

طُلب مني في ذلك اليوم الذي تغيّرت حياتي فيه أن أكتب خبرين صحفيين، الأول عن شراكة بين وزارتين، وأما الآخر فعن ملتقى للتوظيف لن يكون له تلك الفائدة فطلبوا أن يكون متخفيًا وكأنه حرباء حتى لا يغضب الناس. يجلس عزام عن يميني حيث يكذب على الموظفة التي أمامي حول خططه لزيارة لندن لأسبوعين، وأنا أعلم أن ثلاثة أرباع راتبه تذهب لديونه. وأما فهد فعن شمالي يحضر اجتماعًا يبدو متحمسًا فيه، والذي ورائي يحضر اجتماعًا آخر، وعند الباب موظفَين تقابلا بعد غياب طويل فأخذا يتبادلان الأخبار بصوت عالٍ. وإن طبّقت نصيحة ستيفن كينغ بأن أضع سماعاتي في أذني واستمع لموسيقى صاخبة تعزلني عنهم جميعًا، فسينتزعها عزام في فكاهته المعتادة ويستمع لما أسمع ويُعلق أنني رومانسي ويلكزني مطالبًا أن أعترف بمن أكنّ مشاعري وأنا كنت في الأصل استمع لمعزوفة "الفصول الأربعة".

 

أرغمت نفسي على الجلوس وبدء العمل، بدأت في الخبر الأول وانهيته بحلول الظهر، ثمّ انتقلت للآخر وانهيته عند بداية العصر. وقفت مستعجلًا بعد انهاء مهامي ووضعت أغراضي داخل الحقيبة، وخرجت مستعجلًا من المكتب، ولكنني توقفت بمجرد سماع عبد الجبار يناديني "لحظة، أريدك في مكتبي دقيقة"، ازدادت نبضات قلبي، وأصبحت الرؤية ضبابية، سرت ببطء إلى مكتبه وتجلّى لي فجأة مدى فرق طولي عن الناس وضخامة قدماي وأنا أرفع أحدهما ثم أنزل الأخرى لأذهب إلى مكتب مدير القسم. دخلت المكتب، وأغلقت الباب ورائي، كان عبدالجبار منهمكًا في عمله تاركًا غترته على كرسيّه، ومستغرقًا في الكتابة على لوحة المفاتيح، أشار بيده "تفضل أجلس". فجلست على الكرسي، ووضعت حقيبتي على الأرض، بدأت أفرّك يديّ بقلق، ماذا عن عملي اليوم، كان المكتب صاخبًا فلم أركز بما فيه الكفاية، يبدو أنني لم أثر أعجابه، أو أيعقل أنني ارتبكت خطأ إملائيًا!

ترك الشاشة لبرهه، وشابك أصابع وقال: لن أطيل الأمر، ما شاء الله أكملت معنا عشرة سنوات؟

-       ثلاثة عشر سنة.

-       ما شاء الله مُبهر! عمومًا نحتاج إلى مدير محتوى وأنت ما شاء الله أقدم الموجودين، أقدم مني حتّى، فأرى أنك مناسب للمهمة، ما رأيك؟

-       حقيقة.. لا أعرف.. أولا شكرًا لثقتكم.. أ .. أكيد أكيد أتشرف شكرًا.

-       تستاهل تستاهل، ولكن عدني أن المستوى يتعدل، وأن الجودة تبقى ثابته أو تتحسن اثنان لا ثالث لهما، اتفقنا؟

-       اتفقنا.

-       تقدر تتفضل، ومبارك لك!

 

 

 

بالكاد استطعت أن أفتح باب المكتب لأخرج منه، حاولت أن أخفي ابتسامتي، وأن أبدو غامضًا عندما مررت بعزام وفهد، ولكن عزام قفز من مكانه ولكزني "بشر؟!"، قلت له "إن شاء الله خير، أراكم غدًا". ركبت سيارتي عائدًا للمنزل حيث استغرقت مدة العودة ضعف الوقت المفترض بسبب الزحام. ولم يكن هناك تسلية أخرى في السيارة إلا سماع الموسيقى، انتقلت بين أغاني الجاز وكاظم الساهر تارّة تعبيرًا عن فرحتي. وبنما كنت أدندن، وأحرك أصابعي مع إيقاع الموسيقى على المقود، وردني اتصال من والدي. أخذت نفسًا عميقًا، ترددت بين الإجابة أو تركه، فلم أكن قد تحدثت معه منذ عيد الأضحى. ولكني خفت فجأة أن أمي توفت، أو أن أختي أصابها مكروه. فرديت على اتصاله.

-       آلو؟

-       السلام عليكم ورحمة الله

-       وعليكم السلام

-       كيف الحال؟ وش العلوم؟

-       الحمد لله بخير، أنت كيف حالك، وكيف حال أمي؟

-       كلنا بخير الحمد لله، ما بأطول عليك عندي لك خبر.

ابتلعت ريقي.. وازدادت ضربات قلبي.. شعرت بغيمة تنزل على عيني.

-       أبشرك عمك اتصل... والحقيقة كان يبغى يتكلم عن الموضوع الزواج، أنت معي؟ يقول عمك إن كنت لا تزال عند كلمتك وتريد الزواج سيزوجك.

كانت السيارة تنحدر من المخرج للطريق الرئيسي بسرعة سبعين، وفجأة انفلت المقود من يديي وأخذ يلف لجهة اليسار، أمسكت بالموقد محاولًا إرجاعه لليمين ولكن دون جدوى، سمعت صوت مكابح سيارات من ورائي، وصوت والدي وهو يطلب موافقتي يختلط مع صوت سيارتي وهي تلف حول نفسها. اغمضت عيني، وضغطت على المكابح، وأمسكت المقود بأقصى قوتي.

 

فتحت عيني ببطء، العين اليمنى أولًا ثمّ اليسرى، كنت في منتصف طريق الملك فهد، أمامي سيارة واقفه بالعرض وأخرى عن يميني بالطول، وجميع السيارات تبدو بحالة جيدة، لم أرى أي زجاج، أو دماء، رفعت يدي عن الموقد التي كانتا ترتجفان بقوة. صرخ والدي "ولد! ما بك! هل أنت بخير؟!" ابتلعت ريقي، وقلت بصوت مكتوم، "نعم نعم أنا بخير فقط حادث بسيط أمامي"، "الحمد لله، الخميس مناسب؟"، "نعم مناسب".

 

وصدقيني، أنني لم أصدق أبدًا ما حدث بعد ذلك، لم أصدق زواجنا، ولا صوتك وأنتِ تتحدثين معي، ولا ترقيتي الجديدة في العمل واحترام زملائي لي والأهم من ذلك مكتبي الجديد المُغلق حيث أستطيع أن أغرق في وحدتي وأن أفكر فيك. لم أتوقع أن تكون الحياة عادلة معي، كنت أنتظر المصائب كلّ يوم، كنت أنتظر تلك الوفاة التي ستُلغي زواجنا ولكن أحد لم يمت، أو أن يتأخر جواز سفري فلا نقضي شهر العسل في إندونيسيا، أو أن يقع أكبر  كوابيسي وتتركيني ولكنك بقيتي معي وأنا سأتركك وحيدة.

لا أنتظر منك أن تعذريني أو أن تفهميني لأنني أنا نفسي لم أستوعب ما يحصل معي. وأعلم أننا وعدنا بعضنا بأن نبوح بكل ما يجول في خواطرنا لبعضنا البعض، ولكن تلك الأفكار اقتحمت رأسي بسرعة وكأنها سرب من النحل لم أستطع مواجهته بل سلمته له نفسي فقط.

كنتُ مستلقيًا على الأرجوحة القماشية حيث النهر والغابة عن شمالي وأنتِ عن يميني تجلسين في الغرفة تضعين مكياجًا، وأنا اقرأ رواية كبرياء وتحامل لجين أوستن كما طلبتِ مني، كنت اتساءل ما إن كانت الرواية تعكس قصتنا، ولكنني لم أحمل لا كبرياءً ولا تحاملًا بل انكارًا وذلًا وربما جمعت أنتِ هذه الصفتين. اغلقتُ عيني، واستنشقت الهواء العليل، هذه آخر ليلة نقضيها سويًا، ومن المفترض أن نعود إلى منزلنا حيث نكمل بقية حياتنا سويّة.

كانت الثلاث الشهور الماضية أجمل أيام حياتي. حصل تفيها على ترقية في العمل بعد ثلاثة عشر سنة من العمل الدؤوب، واجتمعت أخيرًا معكِ رغم أن جميع قوانين الرياضيات كانت تُشير إلى استحالة ذلك. ولكنني لم أعتد على الشعور بالأمان وقلبي الصغير لن يتحمل أي اختلاجة حُب أخرى.

كنت نائمة على السرير كملاك بريء، والكثير من الكتب متناثرة على أرضية الغرفة. شعرت بدفء في صدري، بشرارة غريبة تشتعل لم أشعر بها من قبل. كنت فوق الناس، مثل دمية متحركة مُعلقة بخيوط أرتفع أكثر وأكثر، لا شيء من هذا يبدو حقيقة، ماذا بعد ذلك؟ أليست هذه هي النهاية؟ هذه هي القمة، من هنا استنشق أصفى هواء، في هذه اللحظة أشعر أنني لست إنسان. كل شيء بعد هذه الليلة يبدو سخيفًا، وكل شيء بعد كوب الشاي بالأعشاب الذي أعددته لا طعم له، وهذا القلب سينفجر لو لامسته ي اختلاجة أخرى.

اعترتني رغبة قويّة بالموت، فأنا لن أتحمل سعادة أكبر من هذه، وأنا لا أريد ولا أتوقع من الحياة أن تمنحني سعادة أكبر من التي شعرت بها وأنا بجانبك خلال العشرة الأيام الماضية. لمَ نحكم على أنفسنا بالموت إذا شعرنا بالتعاسة؟ أو ليست السعادة تستحق أكثر أن نقتل أنفسنا من أجلها؟ أليست السعادة هي التي تُفجر براكين القلق والخوف في دواخلنا؟ ففي الحزن الأمر سيان إن ساءت الأمور فهي كانت سيئة من قبل، وإن تحسنت فالتحسن لن يجبر كسر القلوب أبدًا. ولكن إمضاء الوقت معك وامتلاكك وتقبيلك قلب كلّ شيء في حياتي لدرجة أنني لم أعد أعرف كيف أعيش فيها.

لستِ أنت السبب بل أنا، فأنا الذي اعتدت الحزن والكآبة ولم أستطع أن أتقلم مع رغد العيش.

 لا تخرجني من البلكونة ولا تنظري للنهر لأنني لا أريدك أن تعيشي التعاسة والحزن التي عشتهما، بل اخرجي من هذه الغرفة وانفضي عن نفسك أي أثر مني، وأركضي حتى تتبخر رائحة عطري من جسدك، اركضي ولا تتوقفي حتى تؤلمك قدماك وتنسين اسمي."

 

تعليقات

ما أحبه القرّاء