متى تأتي ماما؟
متى تأتي ماما؟
كانت تقف على
طوبة اسمنتيّة، تغسل الأواني بيديها الصغيرتين وهي تستمتع لأغنية في المسجل وتردد
معها "حلّق حلّق... بالجانحين وصفق"، عندما دخل أخوها "سعد"
صارخًا: "مريم"، هل أخذتوا درس القسمة الطولة؟
أخفضت صوت المسجل
وقالت: نعم، لماذا؟
-
"عبد الله" يريد أن يحل الواجب من
كتابك، أين هو؟
أعادت
صوت الراديو لنغمته الطبيعية: داخل حقيبتي بالصالة.
عادت
لتغسل الأواني، وتغني "طائر النورس...طائر النورس"، قطعها أخاها وهو
يصرخ من عند باب المطبخ: اسمعي، أريد ساندويتش زبدة فول سوداني على الفطور غدًا!
عادت
بلامبالاة: طيب.
كل
الأطباق مغطاة الآن بالصابون، تناولت الطبق الأول وغسلته بالماء، ثمّ الآخر. رفعت
إحدى قدميها، فقد آلمتها من سطح الطوبة الاسمنتية الخشن. لم تكن تعرف غسيل
الأواني، كانت تكتفي بتوزيعها فقط بعد أن تغسلها أمها. أكملت الغسيل، طبقًا وراء
طبق. دخل أخوها "محمد" بملابس الرياضة يجرّ قدماه ووجه يميل للرمادي
ونفسه متقطع رمى جسده على أحد كراسي المطبخ البيضاء البلاستيكية وهو يتنفس بصعوبة،
قال: ما هو العشاء؟
القت
عليه نظرة خاطفة، أطفئت المسجل، وردت عليه: أبي وامي سيحضرانه معهما.
-هل
سيحضرون شاورما؟
-
لا أعرف.
مال
بجسده للأمام، ووضع يديه بين فخذيه: ولكنني جائع، متى سيأتون؟
زادت
من سرعة شطف الصابون عن الأواني: لا أعرف! ربما حتى لا تأتي أمي اليوم.
ركزت
على الأواني، أمامها أربعة صحون وستّ ملاعق فقط، عليها فقط أن تنهينها وستستريح.
وربما تأتي أمها، من يعلم، فتودع جميع هذه المسؤوليات.. أو بعضًا منها. تبقى فقط
ثلاثة صحون، يبدو ان أخوها يتكلم، ولكنها لا تسمع ما يقول، ربما يتحدث عن مباراة
كرة القدم، أو عن جوعه، لا تدري ولكنها تحاول ألا تسمع فقط، وأن تُسرّع من خروجها
من المطبخ. انتهت أخيرًا من كل الصحون، غسلت يديها سريعًا، قفزت من الطوبة
الإسمنتيةـ وخرجت للصالة، وأخوها يكمل تذمره وهو يمشي وراءها. وما إن دخلت الصالة
حتّى صرخت: "رفيف"!!
ركضت
باتجاهها وحملتها بين يديها: يلا يلا قومي، يلا يا حلوة، هذا ليس وقت النوم بعد. أخذت
ترجها يمينًا ويسارًا: يلا يلا "رفيف"... يلا قومي.
لوّت
الصغيرة ظهرها للوراء، واعترضت بصوت رخيم، ولكنها فتحت عينيها. حملتها بين يديها،
وذهبت لدورات المياه، وأخوها كان لا يزال يمشي وراءها، اقتربت من المغسلة، كانت لا
ترى سوى الصنبور، وقفت على أصابعها وهي تحاول أن تتوازن مع وزن أختها، وضعت يدًا
تحت أختها، والأخرى مدتها للصنبور، ولكنها لم تصل له. التفت بعصبية لأخيها من
وراءها "خذها، اغسل لها وجهها!". تركتهما وسارت بعصبية للصالة، حيث كان
أصغر إخوتها مستلقي بجسده الضئيل على الكنبة، واضعًا يده تحت خده، متأملًا
اللاشيء. ذهبت إليه بخطوات متسارعة: ما بك؟
-
متى سيأتي بابا وماما... أشعر بالنعاس.
-
لا أعرف.
اعتدل
في جلسته، وقال لها: تذكرت ... خاله أم محمود تقول إنها لا تستطيع الاعتناء
ب"رفيف" غدًا، في الصباح لديها مواعيد في المستشفى. هل لديك اختبار مهم
غدًا؟
شعرت
بماء بارد ينسكب على رأسها، وببرودة في أطرافها، قالت بصوت مكتوم: لا. في حين أنه
كان عليها اختبار للقسمة المطولة غدًا.
دخل
"محمد" وهو يحمل الطفلة بين يديه: خذيها.. لا أستطيع ان أتحمل أكثر
سأخرج لأتعشى.
فتحت
يديها واستقبلتها بين أحضانها، وخرج بدوره من الباب متثاقلًا. جلست "مريم"
و"سعيد" في صمت، ينظران لبعضهما، يران الهالات السوداء تحت أعينهما
الصغيرة، ما الذي تعرفه ولا يعرفه؟ ما الذي يقض مضجعهما؟ شعرت بوحش صغير يلتف حول
كتفيها، يضع رأسه بجانب أذنها وأنفاسه تضرب على رقبتها. وقفت بسرعة، نظر إليها
مستغربًا، قالت بصوت عالٍ: أشعر أن ماما ستأتي اليوم، لذا راقب "رفيف"
وأنا سأنظف حمامها جيدًا حتى ترتاح إذا جاءت!
هز
رأسه موافقًا.
اتجهت
للمطبخ، فتحت الدرج، حملت سلة مليئة بالمنظفات، ملمع، مُبيض، صابون تايد، صابون
أرضيات، فرشة صغيرة، ومنشفة. رقت السلالم ثم اتجهت لأول غرفة على يدها اليمين، كان
لون الغرفة أبيض، والسرير يُغطيه فراش أبيض، وأما الأرضية فمغطاة بسجاد سكري اللون
مائل للصفرة. كان الحمام بداخل الغرفة عن يمين الباب الرئيسي، مغطى جدرانه وأرضيته
ببلاط وردي لامع. يتألف الحمام من كرسي حمام، وأمامه مغسله، وعلى الجدار المقابل
للباب بانيو استحمام بستارة بيضاء عليها رسومات حمام طائر.
نثرت
الصابون على الأرض وتناولت صنبور الماء ورشت الحمام كاملًا، ثم جلست على ركبتيها
وبيدها فرشة صغيرة تفرك بلاط الأرضية بقوة. هذه هي المحاولة الأخيرة، لعلّ أمها
إذا رأت الحمام نظيفًا لا تغادر المنزل مرّة أخرى. كم يوم مرّ، أهو شهر، اثنان، نصف
سنة، أم سنة كاملة؟ تشعر بالوحش الصغير يصعد على أكتافها، ويقف على رأسها، فترمي
الفرشاة على الجدار بقوة لعله يخاف، ولكنها لم تهزّ شعرة فيه. يبدأ صدرها يصعد
ويهبط بقوة، تتناول المُبيض، تسكبه في أرجاء الحمام، وتأخذ الفرشة وتعود على
ركبتيها لتفرك الحمام. اختنق المكان برائحة المنظفات، ركبتيها تؤلمانها، ولا يزال
ذلك الوحش الصغير واقفًا على رأسها. تجلس، وتسند رأسها على الحمام، متى تعود
للمنزل؟ ومتى تعود هي للمدرسة؟ متى تنام نومة متواصلة دون بكاء "رفيف"؟
متى تتناول كبسة أمها مرة أخرى؟ تشعر بفيضانات تتفجر من قلبها لعينيها، تتلمس
خدها، هل هذه دموع الحزن والفقد، أم المنظفات هي السبب...
ترى
ضبابًا... تسمع نداءً... تفتح عينيها بصعوبة... ويهزها أخيها "محمد"
بقوّة... رفعت يدها في الهواء "استيقظت.. استيقظت"... تتأمل من حولها
"محمد" عن يمينها و"سعد" يقف بجانبه وهو يحمل "رفيف"
و"سعيد" عن يساره وبجانبه الوحش الصغير، وعلى وجيههم جميعًا ملامح
القلق. استندت على يديها واعتدلت في جلستها، قال لها "محمد": ماذا وضعتي
في الحمام يا مجنونة؟!
-
لا شيء.
-
كدت تموتين!
أخذت
أختها الصغيرة، حملتها وتأملت المكان، هذه غرفتها. وقفت في غرفتها ذات اللون
الوردي، لا تعرف إلى أين تهرب، وممن تهرب وأختها بين يديها والوحش ممسك بساقها، فاتجهت
لإحدى الزوايا، شعرت بغصة في حلقها، حاولت أن تتكلم دون أن يظهر على صوتها ملامح
الحزن، تنحنحت وقالت بصوت منخفض: اخرجوا نريد أن ننام.
خرجوا
جميعهم، وأقفلوا الباب وراءهم، ما عدا الوحش. أطفئت الأنوار، ما عدا أبجورة صغيرة
بجانب سريرها، اشترتها لها أمها حتى لا تخاف في الليل. وضعت أختها على السرير،
وهمست لها: يلا ننام. ولكن الطفلة لم تسمع لها، نهضت مباشرة، نزلت من السرير،
واتجهت لألعابهما المتناثر على أرضية الغرفة، اختارت بعض الدمى وراحت تلعب فيهم. وضعت
رأسها على الوسادة، النوم يتسلل إليها، وتلك الطفلة في أوج نشاطها. غدًا هو ثالث
يوم تتغيب فيه عن اختبار الرياضيات، حذرتها الأستاذة من أنها إذا لم تحضر هذه
المرة فستُعيد الصف الخامس من جديد، امتلأت عينيها بالدموع. كانت أمها في السابق
هي من توقظها، تسرح لها شعرها، وتجهز لها فسحتها، ثم تمشيان سويًا إلى المدرسة.
تشعر بجفنيها يُغلقان... الرؤية ضبابية... صوت أختها يبتعد أكثر وأكثر... تميل
بجسدها لجهة اليسار حتى تراقبها، فترى الوحش مستلقي بجانبها، تذعر، فتنقلب للجهة
اليمنى. تتأمل الباب، ماذا لو فتحه والديها الآن؟ ماذا لو عادت أمها اليوم؟ ماذا
لو جاء أحد وتبرع بالبقاء مع "رفيف" غدًا؟ عينيها الصغيرتين تنطبقان...
الوحش الصغير نائم... وأختها تلعب بحماس... الأفكار بداخل رأسها مشتعلة... ولكن النعاس
أقوى منهم جميعًا.
تشعر
بهزات، بهزات قوية، تفتح عينيها بصعوبة... ترى لحية صغيرة حمراء... طفلة بين يدي
رجل... إنه والدها... تفزّ من مكانها... تجلس وتنظر إليه بنظرات خائفة متأملة
ومذعورة. يضع الصغيرة على السرير بجانب الوحش النائم، ويجلس بجانبها. كانت عينيه
تتكلم... لم يحتج لقول شيء... لا تعرف إلى هذا اليوم ماذا قال... ولكنها عرفت من
انطفاء النور في عينيه أنها لم تعد هنا... أنها لن تعود للمنزل... وأنها لن تحضر
لاختبار الرياضيات غدًا.
تعليقات
إرسال تعليق