الأبراج: بين الماضي والمستقبل
الأبراج: بين الماضي والمستقبل
طلبت مني طبيبة الأسنان أن أجلس على
الكرسي وأن أفتح فمي، أخذت أدواتها الفضية وراحت تضرب ضروسي الواحد تلو الآخر،
وبينما أنا فاتحة فمي سألتني "أيش برجك؟" قلت وفمي مفتوح
"العذلاء"، "أوه، واضح مره من هدوءك إنك عذراء". من منّا لم
يُسأل هذا السؤال؟ أكاد أجزم أن أغلبنا قد سُئل عن برجه سواء في العمل، أو في جمعات
الأصدقاء، وحتّى في عيادات الأسنان، أو اللقاءات العابرة. فالإحصائيات تؤكد أن
موضوع الأبراج والتنجيم انتشر انتشارًا واسعًا في السنوات الماضية، فقد ذُكرت كلمة
برج العذراء في تويتر خلال السبعة الأيام ماضية من بين ألف إلى خمسة ألاف مرة.
تخطى التنجيم الديانات واللغات
والحدود الثقافية فجميع الحضارات من الصين وحتى الولايات المتحدة الأمريكية تتشارك
هذا الموضوع. وما زاد شعبية التنجيم والأبراج هو تخصيص عواميد صحفية للمنجمين في
الصحف والمجلات، وفقرات للأبراج في نشرات الأخبار. ففي عام 1930 نُشر أول عمود
مخصص للتنجيم بمناسبة ميلاد الأميرة مارغريت، أخت الملكة إليزابيث. وكانت الصدمة
أن المنجم تنبأ بتمرد الأميرة في المستقبل، وبحدوث أمر مصيري عند بلوغها السابعة، وعندما
اقتربت من هذا السن تنازل عمها عن العرش لوالدها فأصبحت شقيقتها هي الملكة
المنتظرة. فانبهر الناس من دقة التوقعات وانكبوا على تتبع أخبار الأبراج والتنجيم.
ومن الناحية الأخرى، تحكي لنا الروائية
إيزابيل الليندي في كتابها "باولا" عن قصتها عندما تولّت تحرير مجلة تشيلية
تنشر عمودًا صحفيًا عن الأبراج، حيث هطلت في أحد الأيام أمطار غزيرة منعت المنجمة من
القدوم إلى مكتب المجلة لتسليم التوقعات والتكهنات لكل البرج. وقعت إيزابيل في
ورطة كبيرة، فالجميع ينتظر تكهنات هذا الشهر، فما كان لديها إلا خيار كتابة
التوقعات بنفسها، وعندما نشرت العدد الجديد اُعجب الناس بالتوقعات ولم يلحظ أحد أي
تغيير، وبذلك وفّرت إيزابيل على المجلة أجر المنجمة لسنوات.
اهتم العلماء بالتنجيم نظرًا
لتاريخه الطويل وشعبيته الكبيرة، فبدأوا بالبحث والتأكد ما إن كان اليوم والوقت
الذي يولد فيه الإنسان يؤثر فعلًا على شخصيته، ولم يكتشفوا العلماء أي صلة مشتركة
أبدًا، وأعلنوا بذلك أنه ليس علمًا بل مجرد أساطير وخزعبلات. وعلى أثر هذا
الإثبات، انطلق العلماء الأمريكيين يُطالبون بكتابة تحذيرات في كتب التنجيم
ومقالات الأبراج تُحذر من أن هذه التفاهات هي مجرد للتسلية فقط، وليس لها أي أساس
علمي.
وفي عام 2018 عُقد
أكبر مؤتمر للتنجيم في شيكاغو، تناظر فيه
العلماء والمنجمين وأثبت فيه العلماء أن الأبراج لا تعتمد على أي أساس علمي. ولكن
ذلك القرار لم يؤثر على المنجمين ومرتادي المؤتمر أبدًا، بل اكتفوا بهزّ أكتافهم قائلين
"العلم لم يفهمنا بعد". فيا
تُرى، لما يصرّ الناس على تصديق التنجيم والأبراج بالرغم من كل الأدلة العلمية التي
تُثبت بطلانها؟
قد يكون سبب إيمان الناس بالأبراج
رغم إثبات عدم صحتها هو تأثير "بلاسيبيو" أو ما يُسمى بتأثير دواء
الغفلة. يطرح هذا التأثير فكرة أن بعض الناس يختارون تصديق تأثير أشياء معيّنة
بالرغم من أنهم يعرفون في أعماقهم ببطلانها. وأقرب مثال على ذلك هو تناول العديد
من المرضى لأقراص ليست دوائية ولا تمتلك نفعًا ولا ضرًّا، ولكنهم مع ذلك يستجيبون لها!
فقد أثبتت الدراسات أن 30% من الأشخاص الذين يتناولون أدوية الغفلة لا يتحسنون من
الناحية النفسية فقط، بل من الناحية الجسدية أيضًا؛ أي أن بعضهم يُشفى بفضل هذه الأقراص
التي لا تنفع في شيء عمليًا. وهذا ما يحدث مع المؤمنين بالأبراج، فعندما يُصابون
بخيبة أمل أو يشعرون أن الحياة خرجت عن سيطرتهم يعودون لقراءة شخصياتهم بحسب
أبراجهم أو يلجؤون لتنبؤات المستقبل فيهدؤون ويشعرون أنهم تولّوا زمام الأمور.
وأما السبب الآخر، والمثير جدًا للاهتمام، هو تأثير "بارنوم"، فوصف الشخصيات بحسب الأبراج فضفاض وعام ويميل للإيجابية مثل وصف شخصيتنا نحن معشر برج العذراء بأننا "نخفي مشاعر عميقة عن الآخرين، بسبب الواجبات والمسؤوليات الكبيرة التي تقع علينا، وسعينا الدائم إلى تحقيق مطالبنا في فترة زمنية قصيرة"، ووصف أصحاب برج السرطان بأنهم "يتمتعون بحدس قوي يمكنّه من كشف نوايا وأسرار الأشخاص من حولهم، وهو ما يستخدمونه كآلية دفاع عن حساسيتهم تجاه الناس". فهذا الوصف وغيره من الأوصاف فضفاضة وعامة قد تنطبق على أي شخص في أي مكان وزمان. وقد أُجريت دراسة مثيرة للاهتمام اختبر فيها 39 طالبًا اختبارًا نفسيًا ملفقًا، ثم أُعطي جميع الطلبة وصف الشخصية نفسه، والصدمة كانت أن جميع الطلاب ما عدا طالبًا واحدًا آمنوا أن هذه الأوصاف تصفهم بدقة. وفي تجربة مشابهه، أجرى اليوتيوبر Neuro Transmissions اختبارًا للشخصية لزوّار حديقة، وأعطاهم جميعًا وصف الشخصية نفسه، وكانت النتائج صادمة.
أيش برجك؟ أيش برج أمك؟ متى
ولدتي... أقصد أي ساعة بالضبط.. لازم الساعة؟... أي عشان الخريطة... خريطتك نار..
لازم تأخذين الأمور برويّة... أكيد خريطتي نار أنا مولودة في نص شهر أغسطس... لا
شخصيتك نار، أنتِ عصبية؟... يعني.. واضح إنك عصبية.
هذه واحدة من النقاشات المبتذلة
التي خضتها عن الأبراج، كيف ليوم ووقت وساعة أن تُحدد من أنا؟ كيف لوقت وشهر أن
يحدد كيف سأتعامل مع المواقف؟ كيف لوقت فقط أن يحدد لما أنا أكتب هذه الكلمات؟ هل
لأني عذراء وأحب قول الحق وأهتم بالتفاصيل؟ إذن فاعرفوا أن برجي هو الأسد.
تعليقات
إرسال تعليق