عاصفة جديدة

 عاصفة جديدة


 

بين المنازل الطينية، والشوارع المُزفلتة، وتحت الشمس الحارّة، والنخيل المشتتة، تعيش العوائل السعودية عاصفة جديدة لم تحسب لها حساب.

ليست هذه المرّة الأولى التي يمرّ فيها الشعب السعودي بعاصفة تحوّل فكرية فالجميع يتذكّر عاصفة "الصحوة" التي أسفرت عن إغلاق السينما وإلغاء الحفلات ونبذ الفن ودفن النساء في البيوت، ولا تزال تبعات تلك العاصفة المؤلمة والمشوهة للدين موجودة بكل أسف في مجتمعنا. وها هو الشعب السعودي، بصفته مجمع حيوي يتحرّك مع التيارات ويُعبر عن الأراء، يخوض عاصفة جديدة هي الأخرى صعبة جدًا من نوعها خصوصًا أنها جاءت مباشرة بعد خفوت وميض حركة "الصحوة".

إن سرت بين أحياء الرياض ليلًا فستُلاحظ أن السكون يلفّها. ولكني أؤكد لك، أن تلك المنازل تعج بالصرخات. فبعد عقد من الزمان حُرّم فيه الغناء ومُنعت فيه النساء واستبد فيه الذكور، جاءت حركة جديدة تُزيل عن المجتمع تلك الأفكار وتستبدلها بـ"الوسطية".

قد تعتقد أن كلمة الوسطية ستُخفف من أعراف الصحوة فقط، لكنها على العكس من ذلك، فهي تنبذها تمامًا وتستبدلها بنقيضها. فبدل غطاء الوجه يأتي الكشف، وبدل كسر العود يأتي عزفه في البيوت، وبدل إخفاء اسم الأم يتباهى به الرجال. ولا يعني ذلك أن "الوسطية" تعني الانسلاخ بالدين بل هي فعلًا التوسط في الدين.

في هذا الوقت بالتحديد يشعر الكثير من الرجال السعوديين أنهم يحملون على أكتافهم مهمّة تمرير الأعراف القديمة وفرضها على النساء. ولا أتردد بالقول إنهم يُبيحون لأنفسهم الاستمتاع بـ"الوسطية"، في حين يفرضون على النساء أعراف "الصحوة". فكثير من النساء، ولا أحد يُنكر ذلك، يُمنعن من الخروج مع صديقاتهنّ، ومن العمل في بيئة مختلطة، ومن التحدث مع الرجال في مجريات الحياة اليومية، ومن كشف الوجه، ومن أي ظهور إعلامي بأي وجه كان.

وأعلم جيدًا، عزيزي الرجل، أنك ترى في كلامي إجحافًا لك. لكني أستمحيك عذرًا، فأنت لم تشعر يومًا بتلك الحجرة التي تسد مجرى حلقك عندما تُمنع من الخروج مع أصحابك، ولم تتسارع دقّات قلبك أبدًا عندما قررت أن تكشف وجهك أو ترتدي عباءة مُطرّزة، ولم تضطجع على السرير لتنهمر دمعة حزينة على مخدتك لأنك حُرمت من ما حقك وحلمك ورغبتك.

وأنا بدوري لا ألوم الرجال في ذلك! ففي الأخير دعونا نتذكر أنهم قبل أقل من عشر سنوات كانوا يلعبون دور الآمر الناهي في المنزل، بغضّ النظر عن عمر الرجل ومكانته ورجاحة عقله. فكل أوامره كانت سمعًا وطاعة، وكل ملابسنا كانت لا تُشترى إلا بإذنه، وكنّا لا نخرج من المنزل إلا تحت إشرافه، فكيف له أن يتخلّى فجأة عن ما كان يعتبره حقًا مشروعًا له. فهذه، وأنا لا أمزح، صفعة كبيرة في وجه الرجال.

 

هذا واقع، فنحن نشهد الآن تحوّلًا كبيرًا، لن ينفعنا الجلوس في البيوت مكتوفي الأيدي، بل علينا أن نعبُر هذه العاصفة بأقل الخسائر محمّلين بالأعراف الطيبة ومتخففين من تلك المتزمّتة وأُقدّم بين يديكم أربع نصائح ستُساعدكم -نساءً ورجالًا- على التعايش مع هذا التحوّل بالسلام.

1-    الزمن كفيل بحلّ العقد

قد لا تركبين الأوبر اليوم، لكنه ستركبينه غدًا. الزمن كفيل بأن يشفي أعمق الجراح فما بالك بتغيير الأراء.

2-    قلّل التصادمات

لن تنجح النقاشات والتصادمات في سدّ الثغرة، بل العكس تمامًا، ستكبر هذه الفجوة أكثر وأكثر. فعندما يبدأ النقاش حاول أن تتحاشاه، وأن تُغيّر الموضوع.

3-    جادل بالتي هي أحسن

لا تستعمل في نقاشاتك كلمات مثل "موعلى كيفك!"، "كلمتي هي اللّي لازم تمشي"، اسمع كلامي وبس!"، و"مالك دخل!". اجعلوا من النقاش مليء بكلمات مثل "أفهمك" "أثقك فيك"، "احترم وجهة نظرك". وحاول قدر الإمكان أن تضع نفسك مكان الشخص الآخر.

4-    اختر معاركك

اتفق العرب على ألا يتفقوا، لن تجد دائمًا تأييدًا مستمرًا، ولا تصفيقًا لا ينقطع، بل ستواجه اعتراضات وتلميحات من فترة لأخرى. لا تتصدى لكل هجوم، بل اختر الهجوم الذي ستقف أمامه لتقل "آسف، هذه معركتي لن أتنازل".

 

 

أخيرًا، أتمنى من كلّ قلبي أن تلتفت الحكومات والوزارات والعوائل إلى هذا التغيير وأن تتناقش مع أبنائها وبناتها عن الدواعي والأسباب والأثار. وأن يبتكروا قواعد وسطية تُساعد الجميع على عبور هذه العاصفة بسلام.

 

تعليقات

ما أحبه القرّاء