أطياف




 

 لم يكن يراني أحد، شعري الأسود الطويل، عينايّ الضيقتان، وبياضي الناصع المتقلّب مع مشاعري وكأني حرباء بشرية، كلّ هذا لم يره أحد.

كنت كلّ صباح أذهب مع لميس إلى المدرسة، تناولها أمي وجبتها، وتنظر إليها بقلق وتودعها: "استودعتك الله". أما أنا فلم تكن تراني. ندخل الباص حيث كان مقعدنا في الخلف، لا تسمح لميس لأحد أن يجلس مكاني. أذكر أنها في أحد الأيام دخلت في عراك حاد مع فتاة طويلة وعريضة، أوسعت لميس ضربًا، لكنها انتصرت في النهاية فالجميع عرف بعدها ألا يجلس على مقعدي أبدًا.

استطاعت لميس أن تنقذني من بؤس البشر قليلًا، ففي سنوات دراستنا الأولى تكفلت لي بكرسي بجانبها واشتركنا في الطاولة. لكنها لم  تستطع فعل ذلك عندما انتقلنا للمرحلة المتوسطة. هاجت، وغضبت، وأفزعت المدرسة بأكملها، ثمّ جاءت أُمي لتهدأ من روعها، لكن لميس لم تتخلى عني. في نهاية المطاف انتصروا عليها، واسيتها واقترحت عليها أن تجلس في آخر الصف ليكن باستطاعتي الاتكاء على الجدار.

كنّا نتقاسم كلّ شيء، الخبز، الماء، السرير، الضحكة، الدمعة، وحتّى الذكريات. قد تتسائلون كيف التقينا؟ التقينا وهي ابنة الرابعة، حيث كانت تجلس في فناء منزلهم العاري من كلّ شيء سوى من بلاط أبيض تناثرت عليه نقط سوداء، احسبه أحيانًا سماءً تبدلت فيه ألوان السماء مع النجوم.

كنّا سعيدتين بالرغم من رفض الجميع لاتحادنا معًا، فهم لا يروني شيئًا، ويرونها كلّ الأشياء. لكن بعد دخولنا للثانوية تغيّر كلّ شيء. بدأ ذلك من الليلة التي استيقظت فيها تصرخ، كانت تصرخ بهستيرية، لدرجة أني ظننت أن أحبالها الصوتية ستتقطع في أي لحظة. سقطت من على السرير، وراحت تزحف للوراء مخبئة وجهها بيديها. دنوت منها أهدئها: لميس، هذه أنا أطياف! لميس لا تخافي. لكنها لم تتوقف حتّى جاء أبي وأمي مسرعين، فأخذاها في الأحضان حتّى هدأت ثم أخذاها لغرفتهما لتُكمل نومها هناك

بعد ذلك الموقف أصبحت تشرد كثيرًا، تضحك قليلًا، ويلُفها الصمت. حاولت مرة أن أعرف ما بها، كانت تجلس على مكتبها تُذاكر، فقلت لها: أخبريني ما الذي تشعرين به؟

-لا شيء

-لا شيء! كيف لا شيء وكلّ شيء فيك انطفأ!

-لم ينطفأ شيء!

بلى، لم تعودي تضحكين ولا تتبادلين معي أطراف الحديث!

-اغربي عن وجهي

-لن افعل! يجب أن تذهبي للطبيب! سأخبر أُمي لتأخذك

وقفت على قدماي، وتوجهت نحو الباب بالحزم، فقفزت من على كرسيها فوقي، ارتطمنا على الأرض، أصبح ثقلها بأكمله فوقي. حاولت أن أزحف، يجب أن أعيدها لرشدها! كانت تنهال علي بالألفاظ وأنا أزحف تحتها: يا سافلة توقفي! لن ادخل المستشفى! لست مريضة يا معتوه ماذا ستخبرين أمي!

فُتح الباب بقوة اندفعت أمي نحوها، متجاهلتني رغم أنني كنت أتألم أكثر منها. رفعتها واحتضنتها وأنا التقط أنفاسي.

-كانت تريد أن تذهب لتخبرك أن تأخذيني   

-لن أسمع كلامها لا تخافي 

 

في صباح اليوم التالي لبثت في غرفتي غاضبة، متكورة على نفسي في الزاوية. سمعت الباب يُفتح لكني لم أرفع رأسي، فقد قررت أن أتجاهل كلّ شيء تمامًا كما يتجاهلونني. سمعت صوت جلجلة أواني تُوضع أمامي، ثم خطوات مبتعدة، وقبل أن يُغلق الباب قالت: افطري، معدتك فارغة بالتأكيد.

كانت هي أملي ويأسي، شمسي وقمري، ضحكي وبكائي، حاولت أن أستقلّ بنفسي أكثر من مرة لكن دون جدوى، فهي كانت صوتي الصامت، وحضوري الغائب.

توالت السنوات، وعلاقتنا مضطربة، فتارة متآلفتان وتارة عدوتان. ذات مساء جلست أمام المرآة بأبهى حلّة. فارتأيت مجاملتها فقلت: تبدين جميلة

التفت إلي مندهشةً: لماذا تزينتي!

-سأستقبل الضيوف معك.

-لا، لن تنزلي إليهم!

-لم لا! سأموت من  جلوسي هنا، أنا لا أقابل أحدًا سواك، فمنذ أن رفضتني الجامعة وأنا وحيدة. أنتِ تخرجين وأنا لوحدي، أنتِ تستمتعين مع صديقاتك وتتركينني هنا لأنك تخجلين مني، سئمت يا لميس، سئمت!

-حتّى وأن متِ من السأم، والجوع، والعطش، والوحدة حتّى فلن تخرجي يا أطياف، أسمعتي ذلك! إلا اليوم يا حقيرة إلا اليوم!

وضعت يدي على كتفيها بقوة، استجمعت قواها وابعدتني، فوقعت على الأرض محدثة ضجّة، فدخلت أمي مسرعة: ما الأمر يا لميس!

دائما لميس، أما أنا فلا شيء.

- لا تخافي يا أمي لا شيء، سأنزل الآن، هل وصلوا؟

-على وشك الوصول.

وعندما عادت لميس للنوم، كانت مختلفة تمامًا.

في الشهور التالية، تملكنّي حزن عميق، فقد كانت تتجاهلني تمامًا حتّى أنني كنت أتحدث إليها يومًا ما فرمت علي كوب ماء.

ثمّ رحلت لميس، لم تتردد أمي أن تأخذ كلّ شيء، فأصبحت غرفتي خالية إلا من بلاطٍ أبيض تناثرت عليه نقاط سوداء، وكأنه سماء عالمٌ موازي. أُوصدت علي الغرفة، فلم يعد بإمكاني سوى الاستماع لضجيجهم وهم يعيشون.

 


تعليقات

ما أحبه القرّاء